من طرف وصفي الذباينة
مقدمة
تنبع أهمية توظيف الأسطورة والرموز الأسطورية في القصيدة الحديثة، من كون الرمز يشكل صورة حسِّية، مولدة للمعنى ومسكونة به. ويكشف استدعاء الأسطورة أو الرمز الأسطوري عن قيمة الوظيفة الدلالية والجمالية، التي يحققها الرمز في سياق النص الشعري، سواء جاء هذا الاستدعاء في جزء من القصيدة، أو استغرقها كلها، لأنه(عندما يتجاوز الشاعر مستوى مجرد ذكر الأسطورة أو الرمز الأسطوري إلى مستوى الاستلهام والاستحياء والتوظيف من خلال خلق سياق خاص يجسد تفاعل الأسطورة مع التجربة الشعرية) ([1] )، لذلك فإن استخدام الرمز أو مجموعة الرموز في القصيدة يجب أن يتم، من خلال القدرة على تمثل أبعادها الدلالية والتخيلية والجمالية، وتحويلها إلى بؤرة إشعاعات إيحائية تغني القصيدة.
إن أهمية الأسطورة تنبع من حضورها في الثقافة الجمعية، ومن كونها تمثل انعكاسا للاشعور الجمعي مما يجعل استدعاءها، يستدعي معها فضاءها التخييلي والوجداني ودلالتها الرمزية الموحية، إن استدعاء الأسطورة وكثافتها الرمزية، من خلال مستويات التناص وآلياته المختلفة، في تجربة الشاعر الفلسطيني، ينبع من طبيعة الرؤية التي تقدمها هذه التجربة، على المستويين الفكري والجمالي، وإذا كان الرمز الأسطوري الشرقي الذي ينتمي إلى حضارات المنطقة العربية القديمة يأتي في صدارة التراث الأسطوري، الذي يجري استدعاؤه في قصائد الشاعر الفلسطيني، فإن التراث الأسطوري الغربي، يأتي تاليا معبرا عن انفتاح القصيدة على التراث الإنساني، الدال على تداخل وتفاعل هذا الموروث الأسطوري من خلال انتقاله من ثقافة إلى أخرى، في رحلة الحضارات والثقافات الإنسانية عبر التاريخ([2] )
إن استخدام هذه الرموز في القصيدة يجب أن يكون نابعا من حاجة القصيدة إلى تلك الرموز، وما تمتلكه هذه الرموز، من مجال درامي أسطوري يتفاعل مع تجربة الشاعر المعاصرة، لأن على هذا الاستخدام أن يتجاوز ذكر الرمز الأسطوري، أو الحكاية الأسطورية إلى(مستوى الاستلهام والاستحياء والتوظيف من خلال خلق سياق خاص يجسد تفاعل الأسطورة مع التجربة الشعرية) ([3] ) ، ما يجعل هذا التناص معها يعيد تشكيلها وتكثيف دلالاتها الموحية، وتطوير بعدها الدرامي، بما يجعلها تتفاعل مع التجربة الشعرية للقصيدة، ويعمِّق اتصالها مع التجربة الوجودية والإنسانية بأبعادها الدرامية المختلفة. وفي قراءة للتناص الشعري في الشعر الفلسطيني مع هذا التراث الأسطوري يظهر التعدد في آليات التناص ودرجاته ومستوياته المختلفة، فإلى جانب تناص الخفاء، هناك تناص التجلي... وإلى جانب استدعاء الشخصيات والرموز الأسطورية، هناك تقنيتا القناع والامتصاص والتذويب([4] )
الشعر والأسطورة
تتفق معاجم اللغة العربية على أن الأصل الاشتقاقي لكلمة " أسطورة " يعني : الصف من الكتاب ، والشجر ، والنخل ، والجمع أسطر، وأسطار وأساطير، وواحد الأساطير أسطورة، والسطر : الخط والكتابة ، والأساطير ، الأباطيل ، وهي أيضاً أحاديث عجيبة لا نظام لها ([5] )، وقد وردت هذه الكلمة " الأساطير" بصيغة الجمع في القرآن الكريم " بمعنى الأباطيل ، وذلك في قوله تعالى " يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين"([6] )
أما في العصر الحديث ، فقد أشتقت الكلمة من (mythe) وجذرها (myth) ، أو (mythos) اليونانية ، وكانت تعني لديهم " الحكاية التي تختص بالآلهة وأفعالها ومغامراتها ، عندما ساد الاعتقاد بالآلهة ودورها في حياة البشر في بلاد اليونان ، ولهذا صورت في أشعارهم ، وأسهمت إسهاما كبيراً في الحرب بين طروادة واليونان ، وتعد الإلياذة والأديسا شاهدين على ذلك "([7] ).
لقد ساعد غموض الطبيعة ، ومحاولة الإنسان القديم فك طلاسمها ، واكتشاف نظام الكون ومظاهره المختلفة ، التي حار فكره في تفسيرها ليتمكن من السيطرة على الطبيعة وترويضها وإخضاعها لإرادته لحماية نفسه من الكوارث الطبيعية ، وما يترتب عليها من زلازل وبراكين وفيضانات وغيرها ، ساعد في إيمانه بقوى غيبية ، أسند إليها التحكم في مصير الكون ، فنشأت الآلهة باعتبارها تجلياً لهذه الأفكار التي آمن بها ، فكانت الشمس في وضوحها المتألق ترمز إلى الحق والعدالة ، ويتحتم عليها حماية الإنسان من شياطين الظلام، وكان القمر مصدر الحياة والدفء والنمـاء . ([8] ).
وبذلك استطاعت الأسطورة التي نشأت قبل عصر العلم والتنوير، أن تحقق للبشر أحلامهم من حياة مستقرة – كما اعتقدوا - ، وهذا يعني ابتداء " مرحلة جديدة تتميز بالتقرب لتلك القوى واجتذبت عطفها ، ومحاولة تفهم رغباتها "([9] )، وبذلك كانت الأسطورة جزءً من الشعائر البدائية ، ووسيلة من وسائل تفسير ظواهر الكون المختلفة.
لم يكـن الاتجاه المستند إلى " ظواهر الطبيعة " لتفسير نشأة الأسطورة وتحديد وظائفها هو الاتجاه الوحيد ، وان كان هو المادة الخام التي تولدت منها الأساطير ، في تفسير نشأة الأسطورة وتحديد وظائفها ، بل كانت هناك اتجاهات أخرى ذات قيمة وحضور ، لا من الإشارة إليها ، ولأول هذه الاتجاهات " الاتجاه الأدبي " وفيه يقوم الراوي بتطوير الأمثـال الصغيرة التي يرويها حكيم القوم ويمارس عليها رغبته الملحة والمشروعة في الإضافة إليها ، حتى تتحول إلى قصة ، أو حكايـة تأملية ، وتقدم للمجتمع نظريات في السلوك الأخلاقي والتوجه الاجتماعي ، أما "الاتجاه التاريخي" فيرى في الأسطورة رصد لحوادث انتقلت من تجارب الأولين وخبراتهم، تم نقلها عبر الأجيال ، أما " الاتجاه الذرائعي " فيرى أن الأسطورة لم تظهر لدافع المعرفة والبحث ، بل هي تنتمي إلى العالم الواقعي ، فهي تروى لترسيخ عادات قبلية معينة ، أو لتدعيم سيطرة عشيرة وأسرة ، أو نظام اجتماعي قائم ، فهي إذن عملية في منشأها وغاياتها "([10] ).
وبرغم اختلاف هذه الاتجاهات في تحديد نشأة الأسطورة وغايتها ووظيفتها ؛ إلا أنها تتفق في أمرين ، الأول : أنها تتصف بصفة الاحترام والتصديق والتقديس باعتبارها مجموعة من النظم الاجتماعية المؤسسة على مبادئ وقوانين اتفق المجتمع التعامل على أساسها ، والثاني : أنها مجموعة من القصص والحكايات والأمثال ، والمعتقدات ، يعمل المجتمع على إعادة نسجها وصياغتها بأسلوب جذاب ، حتى تترسخ في الوجدان العام وتكون ملهماً للناس في حياتهم ([11] ).
يعد التوظيف الأسطوري واحداً من الأساليب والتجليات المتعددة التي أصابت بنية قصيدة الحداثة ، منذ ظهورها في نهاية النصف الأول من القرن العشرين ، على يد بدر شاكر السياب ، ونازل الملائكة ، مما أدى انفتاح الخطاب الشعري على فضاءات وعوالم جديدة ، لم يتسنى للقصيدة ذات الشطرين المتناظرين أن تبلغها ، لأنها اعتمدت على رصد الأبعاد الخارجية المجردة للمظاهر الأسطورية في بعدها السري المباشر ، أو أحادي الدلالة ، دون توظيف في نسيج النص، أو في شبكة العلاقات التي تحكمه ، وهذا استخدام " مرحلة تسجيل التراث " أو " التعبير عنه " لدى حركة الإحياء يقابله " " مرحلة توظيف التراث " أو التعبيرية" لدى حركة الحداثة الشعرية " حيث تحولت فيه القصيدة إلى بؤرة من الدلالات المعبرة عن الوعي الفردي ،ة ممتزجاً بالوعي الجماعي([12] ).
احتلت الأسطورة بأنواعها المختلفة اليونانية والفرعونية والكنعانية وغيرها ، مكاناً مرموقاً وحضوراً بارزاً في شعر الحداثة لعدة أسباب ، أولها ترجمة جبرا إبراهيم جبرا أسطورة أدونيس أو تموز ، سنة 1957، حيث اطلع عليها (السياب) قبل نشرها بزمن طويل ، فوجد فيها ضالته المنشودة ، لما تحمله من شحنات دلالية ونفسية ، وقدرة على التداخل مع التجربة الإنسانية ، وتفسير أزمة الإنسان المعاصر ومشكلاته الحضارية ، وفي هذا يقول السياب : ولم تكن الحاجة إلى الرمز ، إلى الأسطورة أمس مما هو اليوم ، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه ([13] ).
أما السبب الثاني : تأثر الشعراء العرب بقصيدة " الأرض اليباب" للشاعر (ت.س. أليوت)، حيث أنها ليست من قبيل النظم الرفيع ، أو لأنها أرض الجذب التي تثير فينا الإحساس بأفول حضارة عصرنا فحسب ، بل لأنها في الحقيقة معين لا ينضب من التأثيرات التي خطط لها بذكاء ، بحيث يستوعب لحظات الحيـاة جميعاً ، وتترك دلالة واضحة على ثراء العناصر المستمدة من تراث الماضين ، بالقدر الذي تدل فيه على حيوية صور العصر ([14] ).
أما ثالث الأسباب فيتمثل في جاذبية " الأسطورة" لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة وتتناوب الخصب والجدب ، وتعين على تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية ، وتسعف الشاعر في الربط بين أحلام العقل والباطن ونشاط العقل الظاهر ([15] ).
وخلاصة القول أن الشاعر الفلسطيني نهل من معين الأساطير القومية والإنسانية ، وأعاد صياغتها برؤيا عصرية ، وعبر عنها بذلك البعد الحضاري الشامل للأمة العربية ، وتبدي في شعرهم حضور الذاتين الفردية والجماعية وتداخلهما ، واستكناه لأبعادها الداخلية والخارجية بما يحملان من أحلام خضراء ، وواقع مرعب ، وطموح متوفر ، وانكسار ذليل ، لقد اتقدت هذه المشاعر وتصارعت في نفوس الشعراء الفلسطينيين ، وخرجت نفثة حرى ، تحولت فيها اللغة إلى رمز إشارة مكتنزة بالأبعاد الدلالية التعبيرية والتصويرية ، تسري في نسغ العصر وشرايينه، وتستمد منه القدرة على التواصل الحار مع الإنسان أينما وجد في محاولة لتغيير الواقع المأساوي المعيش([16] ).
توظيف الأسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر
تنتمي الأساطير التي تتفاعل معها تجربة الشاعر الفلسطيني وتستدعيها إلى أزمنة وحضارات مختلفة، منها ما يعود إلى حضارات وادي الرافدين القديمة، والحضارة الفرعونية وحضارات الساحل السوري، ومنها ما ينتمي إلى حضارات الرومان والإغريق، ما يشير إلى تنوع مصادر هذه الأساطير، وتنوع موضوعاتها ودرجاتها بهدف التأكيد على وحدة التجربة الإنسانية وغناها، إضافة إلى تداخل مستويات هذه التجربة من جهة بأبعادها الوجودية والدلالية والتخييلية، ومن جهة ثانية ويكشف عن حركة انتقال الأسطورة في المكان والزمان أو التناص الأسطوري المتجدد الذي كشفت عنه رحلة هذه الأسطورة من حضارة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى([17] ).
إن قيمة توظيف الأسطورة أو توظيف رموزها وشخصياتها لا تتمثل، في بعدها الدلالي الذي تنطوي عليه، وإنما تتجاوزه إلى البعد الجمالي المتأتي من حضورها في اللاشعور الجمعي، ومن الكثافة والتوتر الدرامي اللذين تمتلكهما، والفضاء التخييلي الذي تستدعيه معها، وقد تمثل حضور الأسطورة في قصائد الشعر الفلسطيني في محورين اثنين، فهي إما أن تكون محور النص وبؤرته، وفي هذا المحور غالبا ما يكون اسم الأسطورة مذكورا في عنوان القصيدة، وإما أن يكون في جزء من الأسطورة، وقد يستخدم الشاعر الكثافة التكرارية لاسم الشخصية الأسطورية، أو يتم استدعاء هذه الأسطورة دون ذكر لأسم شخصياتها، ومن الملامح الأخرى لاستخدام الأسطورة، أو استدعاء أحد شخصياتها أن القصيدة قد تكون حديثا عن الأسطورة، أو يكون الخطاب موجها إلى شخصية أو رمز يحيل عليها، كما قد يكون المتكلم في القصيدة هو الشخصية الأسطورية، أو شخصية الراوي التي هي شخصية الشاعر([18] ).
آليات توظيف الأسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر
لقد تمثلت آليات وطرق توظيف الأسطورة في الشعر الفلسطيني في الآليات الآتية :
استدعاء الشخصية الأسطورية:
قبل الحديث عن موضوعات التناص الأسطوري وآلياته المستخدمة، لا بدَّ من الإشارة إلى أن الأسماء الأسطورية المستدعاة، والأساطير التي يتم التناص معها، تتركز على نوعين من الأساطير، هما نوع دال على معنى، من معاني التجربة الوجودية الإنسانية الأساسية، يتمثل في الموت والبحث عن الخلود لقهره، والتحرر من قسوة ومرارة الشعور به، ونوع يدل على تلك الثنائيات المعبرة عن العلاقة الدرامية المتوترة، في تلك التجربة الوجودية، كثنائيتي الحب والحرب والموت والخلود، وتجدد الحياة وقيامتها، عبر صعود رموزها من عالم الأموات السفلي. وهنا تبرز كثافة استخدام آلية استدعاء تلك الشخصيات الأسطورية، ورمزيتها الدالة على هذا المعنى، كرموز عشتار وإنانا وتموز. في هذا المستوى من التناص يكون الخطاب حديثا عن تلك الشخصية، أو يكون حديثا معها، في حين يجمع تناص التآلف الذي تظهر فيه جامعا بين الصفات القديمة لتلك الشخصيات الأسطورية المستدعاة، والصفات الجديدة التي تعبر عن الواقع المعاصر، أو تحمل رؤية جديدة، يقدمها النص لتلك الشخصيات([19] ).
وفي القصائد التي تمثل الشخصية الأسطورية المستدعاة محور القصيدة يبرز أسم الشخصية في عنوان القصيدة، ما يؤثر في أفق التوقع عند القارئ، ويجعل العنوان بمثابة مفتاح تأويلي يقوم بتعيين طبيعة النص وتشكيل بؤرته الدلالية، ويأتي في مقدمة الرموز التي تستدعيها قصائد الشاعر رمزية شخصية أنات الكنعانية التي يعبر حضورها المكثف، عن قضيتين هامتين، أولهما أن هذه الأسطورة تمثل جزءا من التراث الثقافي الأقدم للمنطقة، وللحضارات التي قامت فيها، ولذلك فإن هذه الآلية من التناص لا تكتفي باستدعاء نصها الأسطوري الغائب، بل تتجاوز ذلك إلى استدعاء، ذلك التاريخ الحضاري القديم الذي يدلل على عمق الوجود التاريخي للذات التي تتكلم في القصيدة، وهي ذات الشاعر التي تجدد اتصالها وتفاعلها، مع هذا الموروث الثري للدفاع عن وجودها، وتاريخها الحضاري في وجه محاولات المحتل الإسرائيلي للقضاء على هذا الوجود وطمسه وتزييف حقيقته من جهة، ومن جهة أخرى لتوظيف البعد الدرامي الذي تنطوي عليه حكايتها، من خلال جدلية العلاقة بين الثنائيات المولِّدة لذلك المجال الدرامي المتوتر، لتلك الحكاية أو المعنى الرمزي للشخصية الأسطورية التي يجري استدعاؤها، كما في قصيدة أطوار أنات، حيث تتحد فيها ثنائية الرمز والمعنى الضدّية، التي يعبر عنها الشاعر درويش من خلال استخدام الجناس الناقص : وقصيدتي زبد اللهاث وصرخة الحيوان، لمحمود درويش. .
عند صعوده العالي
وعند هبوطه العاري
أنا أريدكما معا حبا، وحربا يا أنات([20] ).
كما أن الشاعر مريد البرغوثي الذي يؤسطر للشخصية ويستدعيها في فصائده ، وخاصة تلك التي يلتقي فيها الرمز الأسطوري عوليس ،مع الرمز تليماك، في نقطة واحدة ، هي ألم الغربة ، وحلم العودة إلى الوطن ، لكن الرؤيا التي يعبر الشاعر من خلالها عن الرمز عوليس يشوبها الشك، وتنتهي على عدة أسئلة صادمة ، تسيطر سيطرة تكاد تكون تامة على السياق الشعري في قصيدته " الطوفان وإعادة التكوين " :
هل عاد عوليس من رحم البحار؟
أهو المغني في الطريق يعد خطوات النهار؟
( - سقراط ينتظر الحياة، وكأس سم في انتظار
- وفضاته صتم انتظار .
- ماذا يدبر للغد ؟
- ماذا يدبر الغد؟([21] ).
وإذا كان الشاعر يستدعي تلك الشخصية بالاسم الصريح، فإنه في قصائد أخرى يستدعيها من خلال معناها الرمزي الذي يتمثل في رمزية القمر، باعتبار أن القمر كان يمثل في الأسطورة القديمة آلهة الأنوثة، كما هو الحال في القصيدة التي تحمل عنوان (حليب أنانا) رب السماء والخصوبة لدرويش ، يحمل هذا العنوان دلالة جزئية، تدل على معنى الخصوبة والأمومة، وجاء ذكر أسم الشخصية الأسطورية المستدعاة في العنوان، بوصف تلك الشخصية تشكل محور القصيدة التي تدور حولها، إذ أن القصيدة التي تكون الشخصية المستدعاة محورها، غالبا ما يتم ذكر أسم الشخصية في العنوان،وتظهر الرؤية المعاصرة التي يقدمها الشاعر لتلك الأسطورة في ذلك الحوار الذي يقيمه معه، محاولاً فيه أن ينهي الجدل المستمر حول ملكية تلك الأساطير وتاريخها، والثقافات التي أبدعتها كما يدل على ذلك المعنى الظاهر للقصيدة، في حين أن معناها المضمر، يدل على الصراع الدائر حول ملكية الأرض التي نشأت فيها تلك الأساطير، وعلى عمق الحضور التاريخي والحضاري في الماضي للشعب الذي أبدع تلك الأساطير([22] ).
إن الصراع هنا يتم على المستوى الثقافي وفيه يحاول الشاعر أن يدافع عن وجوده وهويته وتاريخه الحضاري القديم إزاء محاولات الصهيونية السطو على هذا التراث، وادعاء ملكيته لكي تمنح نفسها هوية حضارية، وحضورا تاريخيا عريقا لاسيما أنها تستند في دعاواها على مقولات، لا تكتفي فيها بمصادرة الحاضر والمستقبل خدمة لمشروعها الاحتلالي في فلسطين، بل تسعى لمصادرة الماضي وتزييف حقيقته لمنح نفسها وجودا وتراثا مختلقين. ويهيمن صوت الراوي على الخطاب مختصر هذا الجدل عبر تجريد تلك الأسطورة، من أقنعتها المزيفة، وتحرير ذاكرتها القديمة من إرث الماضي الدموي الثقيل، ومنحها معاني جديدة للجمال والحب والفرح والحياة، والشاعر الذي يريد أن يعيد للأسطورة معانيها الكبيرة والأصيلة، يريد من خلال هذه العودة، أن يجرد تلك الأسطورة من أقنعتها التي ألبسها إياها اليهود، بعد أن ادعوا ملكيتها، بعد أن جعلوا آلهتهم هي التي أبدعتها، لكي يمنحوا وجودهم الحضاري القديم على هذه الأرض بعدا عميقا، إن استدعاء تلك الأساطير يهدف إلى استعادة تلك المعاني الأصيلة لها، وما تحمله من دلالات وجودية وروحية وجمالية سامية، تكشف عن القيم الكبيرة لتك الحضارة الكنعانية التي أبدعتها مخيلتها على خلاف ما ألبسها إياه اليهود فيما بعد، وبذلك فإن تناص الشاعر مع تلك الأسطورة، لا يمثل دفاعا عن عمق الوجود التاريخي والحضاري للإنسان الفلسطيني وحسب، بل يشكل استعادة لدلالاتها ومعانيها الإنسانية الجميلة والكبيرة، وتأكيدا على حضور تلك العلاقة العميقة والحية مع الجمال والحب والطبيعة:
وإن كان لا بد من قمر فليكن عاليا... عاليا
ومن صنع بغداد لا عربيا ولا فارسيا
ولا تدعيه الآلهات من حولنا... وليكن خاليا
من الذكريات وخمر الملوك القدامى
لنكمل هذا الزفاف المقدس... نكمله يا ابنة
القمر الأبديِّ هنا في المكان الذي نزلته
يداك على طرف الأرض من شرفة الجنة الآفلة([23] ).
ويأتي التوظيف الجزئي لبؤرة التشخيص الغنائي الدرامي المتكرر في مجموعة من القصائد الفلسطينية تعبيرا عن المعنى الرمزي، ودلالاته الجمالية الموحية، التي تستدعيها طبيعة التجربة المقدمة في قصائد الشعراء الفلسطينيين، حيث يشكل موضوع الحب، والعلاقة مع المرأة المحور الأساس الذي تدور حوله قصائد الشاعر، محاولة أن تستحضر معانيه، وأبعاده العميقة في الوجدان الجمعي، والوجود الإنساني منذ بدايات هذا الوجود الأولى، والشاعر الذي يستدعي تلك المعاني الرمزية بكثافة واضحة، يستدعيها من خلال صورتها الرمزية والمجازية التي اتخذتها في الأسطورة القديمة، وأصبحت مرتبطة بها بفعل تلك الرؤية الشعرية في الأسطورة التي وحدَّت بين المرأة والقمر، الحسي والخيالي، ولعل ما جاء في ديوان فصول كلها تموز ، للشاعر علاء الغول توحي بذلك :
وأضحت غرفتي ملهى لأشباح أرى فيها
شرود الماضي المجنون فالميناء ما زالت
كأني صخرة منها (تشق الريح فوق البرق)
سعاد يزحف الصاري جنوباً نحوها كيلا
تظن الأمر ينسي مثلما تنسي حكايات ([24] ).
تقوم بين الشعر والأسطورة قرابة المجاز والتخييل. ولعل شخصية أنات في الأسطورة التي يستدعيها الشاعر، تمثل المعاني الرمزية العالية لقيم الجمال والخصب، الأمر الذي جعل الشعوب تختلف على ملكية هذه الأسطورة وأصولها، وتقدم لها أسماء مختلفة في حين تبقى حكايتها ودلالاتها متقاربة، وينبع المعنى الأسطوري الدرامي لهذه الأسطورة من التوتر القائم بين ثنائية الدلالة، أو جدلية العلاقة بين بعديها الرمزيين، الحب والحرب اللذين تنطوي عليهما رمزية أنات، مما يمنحها شاعرية المعنى المستمدة من جدل العلاقة بين التجسد والمدلول والتخييل، لكن خطاب العشق عند الشاعر الفلسطيني يعود إلى صيغته السابقة التي يتحدث فيها عن تلك الشخصية، بعد أن كان يتحدث إليها كاشفا عن معاني تلك العلاقة، بين الشعر والأسطورة والذات والموضوع، باعتبار أن المرأة تمثل النبع الأول للتخييل الإنساني، وللغة المجاز الأولى في الأسطورة التي جعلت المرأة تنطوي في صورتها ومعانيها، على تلك الثنائية الضدِّية التي تمنحها ذلك البعد الدرامي الغريب :
الشعر سلمنا إلى قمر تعلقه أنات
على حديقتها
لعشاق بلا أمل وتمضي
في براري نفسها امرأتين لا تتصالحان
هناك. امرأة تعيد الماء للينبوع
وامرأة توقد النار في الغابات([25] ).
وفي تناص آخر مع الأسطورة يستدعي الشاعر الفلسطيني شخصية أسطورية أخرى، ترمز لدورة الطبيعة المتحولة مع دورة الفصول، والشخصية التي يستدعيها الشاعر هي شخصية إله الخصب أدونيس، في الأسطورة الكنعانية، لكن الخطاب في هذه القصيدة بدلا من أن يكون حديثا(منولوجا) مع تلك الشخصية الأسطورية، نجده يتجه من الراوي إلى القارئ، فيكون حديثا عن تلك الشخصية، ومعاني رمزيتها وليس حديثا إليها، هنا يظهر معنى الحب متلازما مع معنى الفداء والموت الذي تتحدث عنه تلك الأسطورة، وتولِّد من خلاله المعنى الدرامي، المتوتر للحياة والوجود، عبر ثنائية الموت والحياة، والحب والفداء المتمثل في العلاقة بين الدال والمدلول في هذه الشخصية الأسطورية، وبين أبعاد الزمن الماضي والحاضر التي تأخذ مفردة الدم فيهما، معنى مختلفا يعكس واقع التجربة ودلالاتها مع التحول في مضمون الأسطورة، وتوظيف معانيها التاريخية والأيديولوجية :
نزف الحبيب شقائق النعمان
فاصفرت صخور السفح من وجع المخاض الصعب واحمرت
وسال الماء أحمر
في عروق ربيعنا
أولى أغانينا دم الحب الذي
سفكته آلهة
وآخرها دم سفكته آلهة الحديد ([26] ).
تأتي الأسطورة الإغريقية في المرتبة الثانية بعد الأسطورة الشرقية من حيث استدعائها وتأتي أسماء بنلوبي وهيلين ونرسيس في طليعة الأسماء الأسطورية التي يجري استدعاؤها في قصائد الشاعر، وغالبا ما يكون الحديث في القصيدة حديثا عن تلك الرموز وليس حديثا موجها إليها، كما يكون الخطاب موجها إلى القارئ وليس إلى تلك الرموز حيث ينم استدعاء الشخصية من خلال الصفة أو المعنى الرمزي الذي تحمله في الحكاية الأسطورية، ويمثل استدعاء شخصية بنلوبي في القصيدة جزءا من القصيدة حيث يأتي استدعاؤها من قبل شخصية الغريب التي تتولى الكلام في القصيدة دون أن تذكرها بالاسم الصريح، وإنما من خلال صفتها ما يدل على حضورها الجزئي في القصيدة :
من غزلت قميص
الصوف وانتظرت أمام البيت
أولى بالحديث عن المدى
وبخيبة الأمل : المحارب لم يعد. أو
لن يعود([27] ).
وإذا كان استدعاء بنلوبي يأتي في جزء من القصيدة، للدلالة على قوة الصبر واحتمال الغياب والزمن، فإن هيلين تستغرق القصيدة، وتشكل المحور الذي تظل القصيدة تدور حول محورها. كما يكون الخطاب حديثا عنها، وحديثا إليها عندما يتولى الراوي في القصيدة الحديث، عن شخصية الغريب بضمير الغائب، حيث يتجسد جدل العلاقة على مستوى الكينونة بين الغريب وهيلين، وتظهر رمزية المرأة باعتبارها تمثل رمز الحياة والجمال، الذي تجعله أحلامنا رمزا لصراع الحياة الدامي، الذي يسم مراحل التاريخ المختلفة، لأن كل طرف يدّعي أن حربه التي يخوضها ضد الآخر هي حرب من أجل الحياة، وبذلك تتكثف البؤرة الدلالية لمعناه الرمزي، وما تولِّده من توتر يحمله ترحل المعنى من الماضي، الذي هو زمن الأسطورة، إلى الحاضر الذي هو زمن التجربة المعاصرة، التي يعبر عنها الخطاب في هذه القصيدة، من خلال استحضار هذا الرمز الأسطوري باسمه الصريح، والحديث عنه وإليه في الآن، وإن كان الراوي يكتفي بنقل ما يقوله الغريب لهيلين :
ويقول الغريب لهيلين : ينقصني
نرجس كي أحدَّق في الماء
ماءك في جسدي. حدقي أنت
هيلين في ماء أحلامنا.... تجدي الميتين على
ضفتيك يغنون لاسمك([28] ).
ويأتي استدعاء شخصيتي جلجامش وأنكيدو الأسطوريتين وغيرها من الشخصيات الأسطورية في جزء من القصيدة باعتبارهما يمثلان مع فكرة الموت والبحث عن الخلود الملازمة محورا مساعدا، تحاول القصيدة في هذه الأجزاء أن تعبر عنها. وفي هذا التناص يتوجه خطاب الشاعر إلى أنكيدو، في منولوج يعبر فيه عن نضوب الخيال الذي منه ولدت تلك الأساطير البشرية بفعل التبدل الذي طال حياة الإنسان المعاصر وعلاقته بالعالم والأشياء بعد أن سيطرت العلاقات المادية والنفعية وانتفت تلك الرؤية الشعرية والأسطورية التي كانت تمنح الحياة معنى من السحر والغرابة المثيرة الأمر الذي جعل الإنسان عاجزا عن إبداع أساطيره الجديدة، أو إغناء تلك الأساطير القديمة التي كانت تغذي حياة الإنسان، وتثري وجوده :
والقلب مهجور كبئر جفَّ فيها الماء فاتسع الصدى
الوحشيّ : أنكيدو خيالي لم يعد
يكفي لأكمل رحلتي ([29] ).
ويقوم الشاعر الفلسطيني في استحضار رمز الأسطورة بقلب لمعنى الأسطورة القديمة التي يستدعيها والتي تربط بين ظاهرة الزلازل التي تصيب الأرض، والثور الذي يحملها على قرنيه، ويقوم بنقلها من قرن إلى آخر عندما يتعب. وفي هذا الاستدعاء لتلك الأسطورة، يقوم الشاعر بنقل المعنى من الأرض إلى المرأة، من خلال التداخل في المعنى الرمزي بين الأرض والمرأة. ولما كان هذا الاستدعاء يتم في جزء من القصيدة، فإن حديث الراوي/الشاعر يكون حديثا عن الأسطورة، وعن المرأة في الآن معا نظرا لتداخل المجال الدلالي والرمزي بينهما بغية إثراء المعاني التي تمثلها المرأة، ومنحها صفات متعالية فوق واقعية تجعل من صورتها أكثر دهشة وسحرا وفتنة:
سيدة المديح صغيرة، لا عمر يخدش وجهها، لا ثور
يحملها على قرنيه
تحمل نفسها في نفسها، وتنام في أحضانها هي([30] ).
آلية الامتصاص والتذويب :
يتكثف استخدام آلية الامتصاص والتذويب في العلاقة مع الأسطورة بصورة عامة، ومع أسطورة الانبعاث والتجدد والخصب والموت بصورة خاصة، والشاعر في هذا المستوى يقوم بتذويب الأسطورة، ومحو حدودها وامتصاصها في قصائده مستفيدا مما تتميز به الأسطورة في رؤيتها إلى الطبيعة والأشياء من بنية استعارية، تحاول من خلالها أنسنتها مستخدمة في ذلك التشخيص والتجسيد لإضفاء الروح عليها، وفي هذه القصائد تختفي الأسطورة ليظهر صوت الراوي/ الشاعر، بدلا منها، حيث يظهر توظيف الدلالية الرمزية والبنية الشعرية للأسطورة، انطلاقا من رؤية معاصرة، يعبر من خلالها الشاعر عن العلاقة الروحية مع الطبيعة والأرض، باعتبارها تعكس العمق الروحي والوجداني لهذه العلاقة الأصيلة التي تمثل علامة ثقافية بارزة من علامات الموروث الثقافي الأسطـوري للمنطقة([31] ).
وتظهر آلية الامتصاص والتذويب للمورث الأسطوري البابلي والكنعاني والفينيقي الخاص بأساطير الموت والانبعاث والتجدد وقيامة الحياة، وبدلا من استدعاء الشخصيات الأسطورية المعروفة في تلك الأساطير التي استخدمت رمزيتها بكثافة في الشعر العربي المعاصر، يحاول الشاعر أن يكون التناص، من خلال هذه الآلية مع المعنى الرمزي لتلك الأساطير، وما توحي به من معان ودلالات، يعبر من خلالها عن موضوعات معاصرة، ترتبط بموضوع الأرض والعلاقة الحيّة والمتجددة التي يظهر توحد الإنسان الفلسطيني معها. ويستخدم الشاعر الصورة الاستعارية والتشبيه في هذا المستوى البلاغي للنص، حيث يظهر المعنى الرمزي الذي يوحِّد بين المرأة، بوصفها رمز الخصب والولادة والتجدد والأرض، والشجر الدال على القوة والخضرة الدائمة، مما يخلق مستوى من التراكب الدلالي في القصيدة التي تنفنح على التجربة التي يريد الشاعر التعبير عنها، ويجعل الرمز منتجا لفعله الرمزي الدال، من خلال استخدام صيغة الفعل المضارع الدالة على الاستمرارية في الحركة، والمُشكلِة لمشهدية مولدةٍ لمعانيها الحية والثرية:
آذار طفل الشهور المدلل
آذار يندف قطنا على شجر
اللوز
آذار يولم خبيزة لفناء الكنيسة
آذار أرض لليل السنونو ولإمرأة
تستعد لصرختها في البراري... وتمتد في
شجر السنديان ([32] ).
لقد شكلت قضية الأرض محور هذه الرؤية التي لم تتوقف عند حدود امتصاص المعاني الرمزية لنصوص الأساطير القديمة، وما تختزنه من رؤية شعرية غنية ومن بعد درامي، وإنما تجاوزت ذلك إلى إعادة توظيف تلك الرؤية الاستعارية للأسطورة، بما يمنح علاقة الشاعر مع الأرض على المستوى الوجودي والروحي والتاريخي دلالاتها النابعة من عمق تلك العلاقة ومن تجلياتها المتعددة بما يمنح تلك الهوية قيمتها وملامحها التي تكتسبها من هذا العمق الوجودي والثقافي المترسخ في تاريخها البعيد، وبما يجعل خطاب الشاعر بوصفه يمثل الضمير الحي لشعب يغتصب وجوده وتاريخه وأرضه تحت ذرائع ودعاوى تاريخية ودينية عنصرية تحاول تجديد سيرة الماضي الذي قام على أساسه الوجود اليهودي الغابر والذي تفضحه كتبهم عندما تروي وقائع من حدث من تدمير وبطش طال حتى الحيوان، لذلك فإن توظيف الأسطورة بعناصرها المختلفة تأتي محاولة لتأكيد هذا العمق الثقافي لوجود الإنسان الفلسطيني على هذه الأرض وما يحمله ذلك الوجود من غنى حضاري وإنساني تجسده وقائع تلك الأسطورة ودلالاتها المعبرة والموحية، وهذا ما تجلى في الأبيات الآتية :
إنهم أقانيم ثورتك يا إيكاروس
إنهم أقانيمك الثلاثة
إنهم أجنحة أبيك المهين الصابر
فاشملهم بروحك وانطلق
إلى الأعالي يا إيكاروس
ولا بأس عليك من التنفس والحيطة
في مياه الأرض نصب الأعداء كمينهم
وكمين الأعداء يتربص بك في وهج الشمس ([33] ).
إن امتصاص الشاعر للرمز الأسطوري وتوزيعه في جسد القصيدة بوعي ، جعله سداة القصيدة ولحمتها ، وهذا ينم عن وعي الشاعر بأهمية الكلمة الشعرية ، وقدرتها على تأسيس رؤيا تحريضية تعبر عن الحاضر ، وتستشرف المستقبل ، لتبقى جذوره المقاومة الفلسطينية مشتعلة ، بل ما تحمله من تضحية واستشهاد ، ليصبح البطل الفلسطيني " تجسيداً لنموذج الموت والانبعاث ، لأنه يفتدي بموته الأمة ، ويعطيها حياة – وأصبح في أرض فلسطين الأم مطمعاً لتحقيق ولادة جديدة " ([34] ).
هكذا يدعو الشاعر " ايكاروس" أو معادله الموضوعي ، أن يبقى متمسكاً بالحرية، سائراً إليها ، باعتباره، عريسها ، دون أن يرهب الموت ، لأن رماده سيوزع على حدود الوطن ، ليخرج منه " طائر العنقاء" ويقسم الثائر المتعطش للحرية بالأيتوب ، على حد تعبير الشاعر "عز الدين المناصرة "، في قصيدته " طريق إلى الشام" ، حيث يضيف إلى الرمز الأسطوري دلالة جديدة معاصرة ، أو يعيد تأسيس الرمز الأسطوري وفق رؤيا جديدة ، تعبر عن حالة النفي التي يقاسيها الإنسان الفلسطيني ، وتسير هذه الدلالة في القصيدة جنباً إلى جنب مع دلالة الثائر والشهيد ، مستخدماً في ذلك آلية " الدور " المعتمد على التلميح دون التصريح باسم الرمز الأسطوري ، حيث يقول :
ونحن عطاش لماء دمشق القديم
ستحمل في جناحيك عذاب المنافي
لتصرح قرب المذابح في الأديرة
فأجنحة الشمع كادت تذوب
انقسم أن تتوب
فقد قتلوك كما قتلوني ([35] ).
إن خصاب الدلالة في الأبيات السابقة ، يكشف عن حقيقة المأساة أو مأساة الحقيقة ، التي يعانيها الثائر الطامح للحرية ، المتعطش لماء " دمشق" القديم ، دمشق الرمز الممتلئ بالحياة والخصوبة والوجود الحضاري الفاعل ، التي أضاءت روح العالم ، لكنها اليوم هجرتها الجيوش ، والتي يعيش أهلها ويستمتعون بحياتهم ، أما الشاعر وقومه ، فهم يكابدون الأهوال ولا يعيشون الحياة ، يقول :
ذكرتك دمشق كما يذكر الطفل أثداء سيدة
في البلاد التي هجرتها الجيوش
تعيش يا أهلها – وأنا لا أعيش !!! ([36] ).
وبهذا يُعبر " المناصرة" عن المعاناة الإنسانية من خلال استخدام ضمير المتكلم على الصعيدين الذاتي والجماعي في الآن نفسه ، لكن البطل الثائر يخرج من رحم المأساة ، ويلقي عن نفسه عبارات الموت وينهض من قبره بخطى واثقة من وسط صحراء العرب المقفرة راكباً فرسه ، وشاهراً سيفه ، انه البطل الفرد في عالم لا يعرف معنى البطولة ، إذ يقول :
وقلت يعود لنا من قبور الشهادة
يخرج من جوف صحرائنا المقفرة
يغمغم يركض بالسهم يركب فوق حصان
من الحور صاغوه في قاسيون ([37] ).
ينداح النص الأسطوري ورموزه الأسطورية بين يدي الشاعر ، ليغطي مساحة الوطن في فلسطين ودمشق، وقاسيون ، وغيرها ، ولهذا يعد المناصرة شاعر الأمكنة بحق ؛ حيث يتبدى في قصائده "شعرية" الأمكنة ، وقدرتها على الحضور الفاعل في تشكيل بنية النص وإنتاج دلالاته ، وبهذا يمكن اعتبار هذه الحالة الشعرية المكانية مظهراً من مظاهر المقاومة الشعرية ؛ لأنها تدافع عن حق الهوية الفلسطينية في لملمة عناصرها ، التي تمت تجزئتها من أجل الوقوف ضد الاندثار والاندماج في المنافي ([38] ).
خاتمة :
من خلال الدراسة السابقة تبين أن الشاعر الحديث يوظف الأسطورة القديمة عربية وإغريقية وسومرية وبابلية من مثل : العنقاء والغول والسندباد ، وجلجامش وعشتار ، وسيزيف ، وغيرها ، فقد وظف الشاعر محمود درويش – على سبيل المثال – الأسطورة كثيرا في ديوانه " سرير الغريبة" الذي حشد فيه الشاعر كثيرا من الأساطير المتعلقة بالحب، ولم يكتف الشاعر الفلسطيني الحديث بذلك ، بل جعل من التاريخ وحوادثه وشخصياته مادة استلهمها الشاعر ، فقد تجد في الشعر الحر إشارة لحرب جاهلية
تنبع أهمية توظيف الأسطورة والرموز الأسطورية في القصيدة الحديثة، من كون الرمز يشكل صورة حسِّية، مولدة للمعنى ومسكونة به. ويكشف استدعاء الأسطورة أو الرمز الأسطوري عن قيمة الوظيفة الدلالية والجمالية، التي يحققها الرمز في سياق النص الشعري، سواء جاء هذا الاستدعاء في جزء من القصيدة، أو استغرقها كلها، لأنه(عندما يتجاوز الشاعر مستوى مجرد ذكر الأسطورة أو الرمز الأسطوري إلى مستوى الاستلهام والاستحياء والتوظيف من خلال خلق سياق خاص يجسد تفاعل الأسطورة مع التجربة الشعرية) ([1] )، لذلك فإن استخدام الرمز أو مجموعة الرموز في القصيدة يجب أن يتم، من خلال القدرة على تمثل أبعادها الدلالية والتخيلية والجمالية، وتحويلها إلى بؤرة إشعاعات إيحائية تغني القصيدة.
إن أهمية الأسطورة تنبع من حضورها في الثقافة الجمعية، ومن كونها تمثل انعكاسا للاشعور الجمعي مما يجعل استدعاءها، يستدعي معها فضاءها التخييلي والوجداني ودلالتها الرمزية الموحية، إن استدعاء الأسطورة وكثافتها الرمزية، من خلال مستويات التناص وآلياته المختلفة، في تجربة الشاعر الفلسطيني، ينبع من طبيعة الرؤية التي تقدمها هذه التجربة، على المستويين الفكري والجمالي، وإذا كان الرمز الأسطوري الشرقي الذي ينتمي إلى حضارات المنطقة العربية القديمة يأتي في صدارة التراث الأسطوري، الذي يجري استدعاؤه في قصائد الشاعر الفلسطيني، فإن التراث الأسطوري الغربي، يأتي تاليا معبرا عن انفتاح القصيدة على التراث الإنساني، الدال على تداخل وتفاعل هذا الموروث الأسطوري من خلال انتقاله من ثقافة إلى أخرى، في رحلة الحضارات والثقافات الإنسانية عبر التاريخ([2] )
إن استخدام هذه الرموز في القصيدة يجب أن يكون نابعا من حاجة القصيدة إلى تلك الرموز، وما تمتلكه هذه الرموز، من مجال درامي أسطوري يتفاعل مع تجربة الشاعر المعاصرة، لأن على هذا الاستخدام أن يتجاوز ذكر الرمز الأسطوري، أو الحكاية الأسطورية إلى(مستوى الاستلهام والاستحياء والتوظيف من خلال خلق سياق خاص يجسد تفاعل الأسطورة مع التجربة الشعرية) ([3] ) ، ما يجعل هذا التناص معها يعيد تشكيلها وتكثيف دلالاتها الموحية، وتطوير بعدها الدرامي، بما يجعلها تتفاعل مع التجربة الشعرية للقصيدة، ويعمِّق اتصالها مع التجربة الوجودية والإنسانية بأبعادها الدرامية المختلفة. وفي قراءة للتناص الشعري في الشعر الفلسطيني مع هذا التراث الأسطوري يظهر التعدد في آليات التناص ودرجاته ومستوياته المختلفة، فإلى جانب تناص الخفاء، هناك تناص التجلي... وإلى جانب استدعاء الشخصيات والرموز الأسطورية، هناك تقنيتا القناع والامتصاص والتذويب([4] )
الشعر والأسطورة
تتفق معاجم اللغة العربية على أن الأصل الاشتقاقي لكلمة " أسطورة " يعني : الصف من الكتاب ، والشجر ، والنخل ، والجمع أسطر، وأسطار وأساطير، وواحد الأساطير أسطورة، والسطر : الخط والكتابة ، والأساطير ، الأباطيل ، وهي أيضاً أحاديث عجيبة لا نظام لها ([5] )، وقد وردت هذه الكلمة " الأساطير" بصيغة الجمع في القرآن الكريم " بمعنى الأباطيل ، وذلك في قوله تعالى " يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين"([6] )
أما في العصر الحديث ، فقد أشتقت الكلمة من (mythe) وجذرها (myth) ، أو (mythos) اليونانية ، وكانت تعني لديهم " الحكاية التي تختص بالآلهة وأفعالها ومغامراتها ، عندما ساد الاعتقاد بالآلهة ودورها في حياة البشر في بلاد اليونان ، ولهذا صورت في أشعارهم ، وأسهمت إسهاما كبيراً في الحرب بين طروادة واليونان ، وتعد الإلياذة والأديسا شاهدين على ذلك "([7] ).
لقد ساعد غموض الطبيعة ، ومحاولة الإنسان القديم فك طلاسمها ، واكتشاف نظام الكون ومظاهره المختلفة ، التي حار فكره في تفسيرها ليتمكن من السيطرة على الطبيعة وترويضها وإخضاعها لإرادته لحماية نفسه من الكوارث الطبيعية ، وما يترتب عليها من زلازل وبراكين وفيضانات وغيرها ، ساعد في إيمانه بقوى غيبية ، أسند إليها التحكم في مصير الكون ، فنشأت الآلهة باعتبارها تجلياً لهذه الأفكار التي آمن بها ، فكانت الشمس في وضوحها المتألق ترمز إلى الحق والعدالة ، ويتحتم عليها حماية الإنسان من شياطين الظلام، وكان القمر مصدر الحياة والدفء والنمـاء . ([8] ).
وبذلك استطاعت الأسطورة التي نشأت قبل عصر العلم والتنوير، أن تحقق للبشر أحلامهم من حياة مستقرة – كما اعتقدوا - ، وهذا يعني ابتداء " مرحلة جديدة تتميز بالتقرب لتلك القوى واجتذبت عطفها ، ومحاولة تفهم رغباتها "([9] )، وبذلك كانت الأسطورة جزءً من الشعائر البدائية ، ووسيلة من وسائل تفسير ظواهر الكون المختلفة.
لم يكـن الاتجاه المستند إلى " ظواهر الطبيعة " لتفسير نشأة الأسطورة وتحديد وظائفها هو الاتجاه الوحيد ، وان كان هو المادة الخام التي تولدت منها الأساطير ، في تفسير نشأة الأسطورة وتحديد وظائفها ، بل كانت هناك اتجاهات أخرى ذات قيمة وحضور ، لا من الإشارة إليها ، ولأول هذه الاتجاهات " الاتجاه الأدبي " وفيه يقوم الراوي بتطوير الأمثـال الصغيرة التي يرويها حكيم القوم ويمارس عليها رغبته الملحة والمشروعة في الإضافة إليها ، حتى تتحول إلى قصة ، أو حكايـة تأملية ، وتقدم للمجتمع نظريات في السلوك الأخلاقي والتوجه الاجتماعي ، أما "الاتجاه التاريخي" فيرى في الأسطورة رصد لحوادث انتقلت من تجارب الأولين وخبراتهم، تم نقلها عبر الأجيال ، أما " الاتجاه الذرائعي " فيرى أن الأسطورة لم تظهر لدافع المعرفة والبحث ، بل هي تنتمي إلى العالم الواقعي ، فهي تروى لترسيخ عادات قبلية معينة ، أو لتدعيم سيطرة عشيرة وأسرة ، أو نظام اجتماعي قائم ، فهي إذن عملية في منشأها وغاياتها "([10] ).
وبرغم اختلاف هذه الاتجاهات في تحديد نشأة الأسطورة وغايتها ووظيفتها ؛ إلا أنها تتفق في أمرين ، الأول : أنها تتصف بصفة الاحترام والتصديق والتقديس باعتبارها مجموعة من النظم الاجتماعية المؤسسة على مبادئ وقوانين اتفق المجتمع التعامل على أساسها ، والثاني : أنها مجموعة من القصص والحكايات والأمثال ، والمعتقدات ، يعمل المجتمع على إعادة نسجها وصياغتها بأسلوب جذاب ، حتى تترسخ في الوجدان العام وتكون ملهماً للناس في حياتهم ([11] ).
يعد التوظيف الأسطوري واحداً من الأساليب والتجليات المتعددة التي أصابت بنية قصيدة الحداثة ، منذ ظهورها في نهاية النصف الأول من القرن العشرين ، على يد بدر شاكر السياب ، ونازل الملائكة ، مما أدى انفتاح الخطاب الشعري على فضاءات وعوالم جديدة ، لم يتسنى للقصيدة ذات الشطرين المتناظرين أن تبلغها ، لأنها اعتمدت على رصد الأبعاد الخارجية المجردة للمظاهر الأسطورية في بعدها السري المباشر ، أو أحادي الدلالة ، دون توظيف في نسيج النص، أو في شبكة العلاقات التي تحكمه ، وهذا استخدام " مرحلة تسجيل التراث " أو " التعبير عنه " لدى حركة الإحياء يقابله " " مرحلة توظيف التراث " أو التعبيرية" لدى حركة الحداثة الشعرية " حيث تحولت فيه القصيدة إلى بؤرة من الدلالات المعبرة عن الوعي الفردي ،ة ممتزجاً بالوعي الجماعي([12] ).
احتلت الأسطورة بأنواعها المختلفة اليونانية والفرعونية والكنعانية وغيرها ، مكاناً مرموقاً وحضوراً بارزاً في شعر الحداثة لعدة أسباب ، أولها ترجمة جبرا إبراهيم جبرا أسطورة أدونيس أو تموز ، سنة 1957، حيث اطلع عليها (السياب) قبل نشرها بزمن طويل ، فوجد فيها ضالته المنشودة ، لما تحمله من شحنات دلالية ونفسية ، وقدرة على التداخل مع التجربة الإنسانية ، وتفسير أزمة الإنسان المعاصر ومشكلاته الحضارية ، وفي هذا يقول السياب : ولم تكن الحاجة إلى الرمز ، إلى الأسطورة أمس مما هو اليوم ، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه ([13] ).
أما السبب الثاني : تأثر الشعراء العرب بقصيدة " الأرض اليباب" للشاعر (ت.س. أليوت)، حيث أنها ليست من قبيل النظم الرفيع ، أو لأنها أرض الجذب التي تثير فينا الإحساس بأفول حضارة عصرنا فحسب ، بل لأنها في الحقيقة معين لا ينضب من التأثيرات التي خطط لها بذكاء ، بحيث يستوعب لحظات الحيـاة جميعاً ، وتترك دلالة واضحة على ثراء العناصر المستمدة من تراث الماضين ، بالقدر الذي تدل فيه على حيوية صور العصر ([14] ).
أما ثالث الأسباب فيتمثل في جاذبية " الأسطورة" لأنها تصل بين الإنسان والطبيعة وتتناوب الخصب والجدب ، وتعين على تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية ، وتسعف الشاعر في الربط بين أحلام العقل والباطن ونشاط العقل الظاهر ([15] ).
وخلاصة القول أن الشاعر الفلسطيني نهل من معين الأساطير القومية والإنسانية ، وأعاد صياغتها برؤيا عصرية ، وعبر عنها بذلك البعد الحضاري الشامل للأمة العربية ، وتبدي في شعرهم حضور الذاتين الفردية والجماعية وتداخلهما ، واستكناه لأبعادها الداخلية والخارجية بما يحملان من أحلام خضراء ، وواقع مرعب ، وطموح متوفر ، وانكسار ذليل ، لقد اتقدت هذه المشاعر وتصارعت في نفوس الشعراء الفلسطينيين ، وخرجت نفثة حرى ، تحولت فيها اللغة إلى رمز إشارة مكتنزة بالأبعاد الدلالية التعبيرية والتصويرية ، تسري في نسغ العصر وشرايينه، وتستمد منه القدرة على التواصل الحار مع الإنسان أينما وجد في محاولة لتغيير الواقع المأساوي المعيش([16] ).
توظيف الأسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر
تنتمي الأساطير التي تتفاعل معها تجربة الشاعر الفلسطيني وتستدعيها إلى أزمنة وحضارات مختلفة، منها ما يعود إلى حضارات وادي الرافدين القديمة، والحضارة الفرعونية وحضارات الساحل السوري، ومنها ما ينتمي إلى حضارات الرومان والإغريق، ما يشير إلى تنوع مصادر هذه الأساطير، وتنوع موضوعاتها ودرجاتها بهدف التأكيد على وحدة التجربة الإنسانية وغناها، إضافة إلى تداخل مستويات هذه التجربة من جهة بأبعادها الوجودية والدلالية والتخييلية، ومن جهة ثانية ويكشف عن حركة انتقال الأسطورة في المكان والزمان أو التناص الأسطوري المتجدد الذي كشفت عنه رحلة هذه الأسطورة من حضارة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى([17] ).
إن قيمة توظيف الأسطورة أو توظيف رموزها وشخصياتها لا تتمثل، في بعدها الدلالي الذي تنطوي عليه، وإنما تتجاوزه إلى البعد الجمالي المتأتي من حضورها في اللاشعور الجمعي، ومن الكثافة والتوتر الدرامي اللذين تمتلكهما، والفضاء التخييلي الذي تستدعيه معها، وقد تمثل حضور الأسطورة في قصائد الشعر الفلسطيني في محورين اثنين، فهي إما أن تكون محور النص وبؤرته، وفي هذا المحور غالبا ما يكون اسم الأسطورة مذكورا في عنوان القصيدة، وإما أن يكون في جزء من الأسطورة، وقد يستخدم الشاعر الكثافة التكرارية لاسم الشخصية الأسطورية، أو يتم استدعاء هذه الأسطورة دون ذكر لأسم شخصياتها، ومن الملامح الأخرى لاستخدام الأسطورة، أو استدعاء أحد شخصياتها أن القصيدة قد تكون حديثا عن الأسطورة، أو يكون الخطاب موجها إلى شخصية أو رمز يحيل عليها، كما قد يكون المتكلم في القصيدة هو الشخصية الأسطورية، أو شخصية الراوي التي هي شخصية الشاعر([18] ).
آليات توظيف الأسطورة في الشعر الفلسطيني المعاصر
لقد تمثلت آليات وطرق توظيف الأسطورة في الشعر الفلسطيني في الآليات الآتية :
استدعاء الشخصية الأسطورية:
قبل الحديث عن موضوعات التناص الأسطوري وآلياته المستخدمة، لا بدَّ من الإشارة إلى أن الأسماء الأسطورية المستدعاة، والأساطير التي يتم التناص معها، تتركز على نوعين من الأساطير، هما نوع دال على معنى، من معاني التجربة الوجودية الإنسانية الأساسية، يتمثل في الموت والبحث عن الخلود لقهره، والتحرر من قسوة ومرارة الشعور به، ونوع يدل على تلك الثنائيات المعبرة عن العلاقة الدرامية المتوترة، في تلك التجربة الوجودية، كثنائيتي الحب والحرب والموت والخلود، وتجدد الحياة وقيامتها، عبر صعود رموزها من عالم الأموات السفلي. وهنا تبرز كثافة استخدام آلية استدعاء تلك الشخصيات الأسطورية، ورمزيتها الدالة على هذا المعنى، كرموز عشتار وإنانا وتموز. في هذا المستوى من التناص يكون الخطاب حديثا عن تلك الشخصية، أو يكون حديثا معها، في حين يجمع تناص التآلف الذي تظهر فيه جامعا بين الصفات القديمة لتلك الشخصيات الأسطورية المستدعاة، والصفات الجديدة التي تعبر عن الواقع المعاصر، أو تحمل رؤية جديدة، يقدمها النص لتلك الشخصيات([19] ).
وفي القصائد التي تمثل الشخصية الأسطورية المستدعاة محور القصيدة يبرز أسم الشخصية في عنوان القصيدة، ما يؤثر في أفق التوقع عند القارئ، ويجعل العنوان بمثابة مفتاح تأويلي يقوم بتعيين طبيعة النص وتشكيل بؤرته الدلالية، ويأتي في مقدمة الرموز التي تستدعيها قصائد الشاعر رمزية شخصية أنات الكنعانية التي يعبر حضورها المكثف، عن قضيتين هامتين، أولهما أن هذه الأسطورة تمثل جزءا من التراث الثقافي الأقدم للمنطقة، وللحضارات التي قامت فيها، ولذلك فإن هذه الآلية من التناص لا تكتفي باستدعاء نصها الأسطوري الغائب، بل تتجاوز ذلك إلى استدعاء، ذلك التاريخ الحضاري القديم الذي يدلل على عمق الوجود التاريخي للذات التي تتكلم في القصيدة، وهي ذات الشاعر التي تجدد اتصالها وتفاعلها، مع هذا الموروث الثري للدفاع عن وجودها، وتاريخها الحضاري في وجه محاولات المحتل الإسرائيلي للقضاء على هذا الوجود وطمسه وتزييف حقيقته من جهة، ومن جهة أخرى لتوظيف البعد الدرامي الذي تنطوي عليه حكايتها، من خلال جدلية العلاقة بين الثنائيات المولِّدة لذلك المجال الدرامي المتوتر، لتلك الحكاية أو المعنى الرمزي للشخصية الأسطورية التي يجري استدعاؤها، كما في قصيدة أطوار أنات، حيث تتحد فيها ثنائية الرمز والمعنى الضدّية، التي يعبر عنها الشاعر درويش من خلال استخدام الجناس الناقص : وقصيدتي زبد اللهاث وصرخة الحيوان، لمحمود درويش. .
عند صعوده العالي
وعند هبوطه العاري
أنا أريدكما معا حبا، وحربا يا أنات([20] ).
كما أن الشاعر مريد البرغوثي الذي يؤسطر للشخصية ويستدعيها في فصائده ، وخاصة تلك التي يلتقي فيها الرمز الأسطوري عوليس ،مع الرمز تليماك، في نقطة واحدة ، هي ألم الغربة ، وحلم العودة إلى الوطن ، لكن الرؤيا التي يعبر الشاعر من خلالها عن الرمز عوليس يشوبها الشك، وتنتهي على عدة أسئلة صادمة ، تسيطر سيطرة تكاد تكون تامة على السياق الشعري في قصيدته " الطوفان وإعادة التكوين " :
هل عاد عوليس من رحم البحار؟
أهو المغني في الطريق يعد خطوات النهار؟
( - سقراط ينتظر الحياة، وكأس سم في انتظار
- وفضاته صتم انتظار .
- ماذا يدبر للغد ؟
- ماذا يدبر الغد؟([21] ).
وإذا كان الشاعر يستدعي تلك الشخصية بالاسم الصريح، فإنه في قصائد أخرى يستدعيها من خلال معناها الرمزي الذي يتمثل في رمزية القمر، باعتبار أن القمر كان يمثل في الأسطورة القديمة آلهة الأنوثة، كما هو الحال في القصيدة التي تحمل عنوان (حليب أنانا) رب السماء والخصوبة لدرويش ، يحمل هذا العنوان دلالة جزئية، تدل على معنى الخصوبة والأمومة، وجاء ذكر أسم الشخصية الأسطورية المستدعاة في العنوان، بوصف تلك الشخصية تشكل محور القصيدة التي تدور حولها، إذ أن القصيدة التي تكون الشخصية المستدعاة محورها، غالبا ما يتم ذكر أسم الشخصية في العنوان،وتظهر الرؤية المعاصرة التي يقدمها الشاعر لتلك الأسطورة في ذلك الحوار الذي يقيمه معه، محاولاً فيه أن ينهي الجدل المستمر حول ملكية تلك الأساطير وتاريخها، والثقافات التي أبدعتها كما يدل على ذلك المعنى الظاهر للقصيدة، في حين أن معناها المضمر، يدل على الصراع الدائر حول ملكية الأرض التي نشأت فيها تلك الأساطير، وعلى عمق الحضور التاريخي والحضاري في الماضي للشعب الذي أبدع تلك الأساطير([22] ).
إن الصراع هنا يتم على المستوى الثقافي وفيه يحاول الشاعر أن يدافع عن وجوده وهويته وتاريخه الحضاري القديم إزاء محاولات الصهيونية السطو على هذا التراث، وادعاء ملكيته لكي تمنح نفسها هوية حضارية، وحضورا تاريخيا عريقا لاسيما أنها تستند في دعاواها على مقولات، لا تكتفي فيها بمصادرة الحاضر والمستقبل خدمة لمشروعها الاحتلالي في فلسطين، بل تسعى لمصادرة الماضي وتزييف حقيقته لمنح نفسها وجودا وتراثا مختلقين. ويهيمن صوت الراوي على الخطاب مختصر هذا الجدل عبر تجريد تلك الأسطورة، من أقنعتها المزيفة، وتحرير ذاكرتها القديمة من إرث الماضي الدموي الثقيل، ومنحها معاني جديدة للجمال والحب والفرح والحياة، والشاعر الذي يريد أن يعيد للأسطورة معانيها الكبيرة والأصيلة، يريد من خلال هذه العودة، أن يجرد تلك الأسطورة من أقنعتها التي ألبسها إياها اليهود، بعد أن ادعوا ملكيتها، بعد أن جعلوا آلهتهم هي التي أبدعتها، لكي يمنحوا وجودهم الحضاري القديم على هذه الأرض بعدا عميقا، إن استدعاء تلك الأساطير يهدف إلى استعادة تلك المعاني الأصيلة لها، وما تحمله من دلالات وجودية وروحية وجمالية سامية، تكشف عن القيم الكبيرة لتك الحضارة الكنعانية التي أبدعتها مخيلتها على خلاف ما ألبسها إياه اليهود فيما بعد، وبذلك فإن تناص الشاعر مع تلك الأسطورة، لا يمثل دفاعا عن عمق الوجود التاريخي والحضاري للإنسان الفلسطيني وحسب، بل يشكل استعادة لدلالاتها ومعانيها الإنسانية الجميلة والكبيرة، وتأكيدا على حضور تلك العلاقة العميقة والحية مع الجمال والحب والطبيعة:
وإن كان لا بد من قمر فليكن عاليا... عاليا
ومن صنع بغداد لا عربيا ولا فارسيا
ولا تدعيه الآلهات من حولنا... وليكن خاليا
من الذكريات وخمر الملوك القدامى
لنكمل هذا الزفاف المقدس... نكمله يا ابنة
القمر الأبديِّ هنا في المكان الذي نزلته
يداك على طرف الأرض من شرفة الجنة الآفلة([23] ).
ويأتي التوظيف الجزئي لبؤرة التشخيص الغنائي الدرامي المتكرر في مجموعة من القصائد الفلسطينية تعبيرا عن المعنى الرمزي، ودلالاته الجمالية الموحية، التي تستدعيها طبيعة التجربة المقدمة في قصائد الشعراء الفلسطينيين، حيث يشكل موضوع الحب، والعلاقة مع المرأة المحور الأساس الذي تدور حوله قصائد الشاعر، محاولة أن تستحضر معانيه، وأبعاده العميقة في الوجدان الجمعي، والوجود الإنساني منذ بدايات هذا الوجود الأولى، والشاعر الذي يستدعي تلك المعاني الرمزية بكثافة واضحة، يستدعيها من خلال صورتها الرمزية والمجازية التي اتخذتها في الأسطورة القديمة، وأصبحت مرتبطة بها بفعل تلك الرؤية الشعرية في الأسطورة التي وحدَّت بين المرأة والقمر، الحسي والخيالي، ولعل ما جاء في ديوان فصول كلها تموز ، للشاعر علاء الغول توحي بذلك :
وأضحت غرفتي ملهى لأشباح أرى فيها
شرود الماضي المجنون فالميناء ما زالت
كأني صخرة منها (تشق الريح فوق البرق)
سعاد يزحف الصاري جنوباً نحوها كيلا
تظن الأمر ينسي مثلما تنسي حكايات ([24] ).
تقوم بين الشعر والأسطورة قرابة المجاز والتخييل. ولعل شخصية أنات في الأسطورة التي يستدعيها الشاعر، تمثل المعاني الرمزية العالية لقيم الجمال والخصب، الأمر الذي جعل الشعوب تختلف على ملكية هذه الأسطورة وأصولها، وتقدم لها أسماء مختلفة في حين تبقى حكايتها ودلالاتها متقاربة، وينبع المعنى الأسطوري الدرامي لهذه الأسطورة من التوتر القائم بين ثنائية الدلالة، أو جدلية العلاقة بين بعديها الرمزيين، الحب والحرب اللذين تنطوي عليهما رمزية أنات، مما يمنحها شاعرية المعنى المستمدة من جدل العلاقة بين التجسد والمدلول والتخييل، لكن خطاب العشق عند الشاعر الفلسطيني يعود إلى صيغته السابقة التي يتحدث فيها عن تلك الشخصية، بعد أن كان يتحدث إليها كاشفا عن معاني تلك العلاقة، بين الشعر والأسطورة والذات والموضوع، باعتبار أن المرأة تمثل النبع الأول للتخييل الإنساني، وللغة المجاز الأولى في الأسطورة التي جعلت المرأة تنطوي في صورتها ومعانيها، على تلك الثنائية الضدِّية التي تمنحها ذلك البعد الدرامي الغريب :
الشعر سلمنا إلى قمر تعلقه أنات
على حديقتها
لعشاق بلا أمل وتمضي
في براري نفسها امرأتين لا تتصالحان
هناك. امرأة تعيد الماء للينبوع
وامرأة توقد النار في الغابات([25] ).
وفي تناص آخر مع الأسطورة يستدعي الشاعر الفلسطيني شخصية أسطورية أخرى، ترمز لدورة الطبيعة المتحولة مع دورة الفصول، والشخصية التي يستدعيها الشاعر هي شخصية إله الخصب أدونيس، في الأسطورة الكنعانية، لكن الخطاب في هذه القصيدة بدلا من أن يكون حديثا(منولوجا) مع تلك الشخصية الأسطورية، نجده يتجه من الراوي إلى القارئ، فيكون حديثا عن تلك الشخصية، ومعاني رمزيتها وليس حديثا إليها، هنا يظهر معنى الحب متلازما مع معنى الفداء والموت الذي تتحدث عنه تلك الأسطورة، وتولِّد من خلاله المعنى الدرامي، المتوتر للحياة والوجود، عبر ثنائية الموت والحياة، والحب والفداء المتمثل في العلاقة بين الدال والمدلول في هذه الشخصية الأسطورية، وبين أبعاد الزمن الماضي والحاضر التي تأخذ مفردة الدم فيهما، معنى مختلفا يعكس واقع التجربة ودلالاتها مع التحول في مضمون الأسطورة، وتوظيف معانيها التاريخية والأيديولوجية :
نزف الحبيب شقائق النعمان
فاصفرت صخور السفح من وجع المخاض الصعب واحمرت
وسال الماء أحمر
في عروق ربيعنا
أولى أغانينا دم الحب الذي
سفكته آلهة
وآخرها دم سفكته آلهة الحديد ([26] ).
تأتي الأسطورة الإغريقية في المرتبة الثانية بعد الأسطورة الشرقية من حيث استدعائها وتأتي أسماء بنلوبي وهيلين ونرسيس في طليعة الأسماء الأسطورية التي يجري استدعاؤها في قصائد الشاعر، وغالبا ما يكون الحديث في القصيدة حديثا عن تلك الرموز وليس حديثا موجها إليها، كما يكون الخطاب موجها إلى القارئ وليس إلى تلك الرموز حيث ينم استدعاء الشخصية من خلال الصفة أو المعنى الرمزي الذي تحمله في الحكاية الأسطورية، ويمثل استدعاء شخصية بنلوبي في القصيدة جزءا من القصيدة حيث يأتي استدعاؤها من قبل شخصية الغريب التي تتولى الكلام في القصيدة دون أن تذكرها بالاسم الصريح، وإنما من خلال صفتها ما يدل على حضورها الجزئي في القصيدة :
من غزلت قميص
الصوف وانتظرت أمام البيت
أولى بالحديث عن المدى
وبخيبة الأمل : المحارب لم يعد. أو
لن يعود([27] ).
وإذا كان استدعاء بنلوبي يأتي في جزء من القصيدة، للدلالة على قوة الصبر واحتمال الغياب والزمن، فإن هيلين تستغرق القصيدة، وتشكل المحور الذي تظل القصيدة تدور حول محورها. كما يكون الخطاب حديثا عنها، وحديثا إليها عندما يتولى الراوي في القصيدة الحديث، عن شخصية الغريب بضمير الغائب، حيث يتجسد جدل العلاقة على مستوى الكينونة بين الغريب وهيلين، وتظهر رمزية المرأة باعتبارها تمثل رمز الحياة والجمال، الذي تجعله أحلامنا رمزا لصراع الحياة الدامي، الذي يسم مراحل التاريخ المختلفة، لأن كل طرف يدّعي أن حربه التي يخوضها ضد الآخر هي حرب من أجل الحياة، وبذلك تتكثف البؤرة الدلالية لمعناه الرمزي، وما تولِّده من توتر يحمله ترحل المعنى من الماضي، الذي هو زمن الأسطورة، إلى الحاضر الذي هو زمن التجربة المعاصرة، التي يعبر عنها الخطاب في هذه القصيدة، من خلال استحضار هذا الرمز الأسطوري باسمه الصريح، والحديث عنه وإليه في الآن، وإن كان الراوي يكتفي بنقل ما يقوله الغريب لهيلين :
ويقول الغريب لهيلين : ينقصني
نرجس كي أحدَّق في الماء
ماءك في جسدي. حدقي أنت
هيلين في ماء أحلامنا.... تجدي الميتين على
ضفتيك يغنون لاسمك([28] ).
ويأتي استدعاء شخصيتي جلجامش وأنكيدو الأسطوريتين وغيرها من الشخصيات الأسطورية في جزء من القصيدة باعتبارهما يمثلان مع فكرة الموت والبحث عن الخلود الملازمة محورا مساعدا، تحاول القصيدة في هذه الأجزاء أن تعبر عنها. وفي هذا التناص يتوجه خطاب الشاعر إلى أنكيدو، في منولوج يعبر فيه عن نضوب الخيال الذي منه ولدت تلك الأساطير البشرية بفعل التبدل الذي طال حياة الإنسان المعاصر وعلاقته بالعالم والأشياء بعد أن سيطرت العلاقات المادية والنفعية وانتفت تلك الرؤية الشعرية والأسطورية التي كانت تمنح الحياة معنى من السحر والغرابة المثيرة الأمر الذي جعل الإنسان عاجزا عن إبداع أساطيره الجديدة، أو إغناء تلك الأساطير القديمة التي كانت تغذي حياة الإنسان، وتثري وجوده :
والقلب مهجور كبئر جفَّ فيها الماء فاتسع الصدى
الوحشيّ : أنكيدو خيالي لم يعد
يكفي لأكمل رحلتي ([29] ).
ويقوم الشاعر الفلسطيني في استحضار رمز الأسطورة بقلب لمعنى الأسطورة القديمة التي يستدعيها والتي تربط بين ظاهرة الزلازل التي تصيب الأرض، والثور الذي يحملها على قرنيه، ويقوم بنقلها من قرن إلى آخر عندما يتعب. وفي هذا الاستدعاء لتلك الأسطورة، يقوم الشاعر بنقل المعنى من الأرض إلى المرأة، من خلال التداخل في المعنى الرمزي بين الأرض والمرأة. ولما كان هذا الاستدعاء يتم في جزء من القصيدة، فإن حديث الراوي/الشاعر يكون حديثا عن الأسطورة، وعن المرأة في الآن معا نظرا لتداخل المجال الدلالي والرمزي بينهما بغية إثراء المعاني التي تمثلها المرأة، ومنحها صفات متعالية فوق واقعية تجعل من صورتها أكثر دهشة وسحرا وفتنة:
سيدة المديح صغيرة، لا عمر يخدش وجهها، لا ثور
يحملها على قرنيه
تحمل نفسها في نفسها، وتنام في أحضانها هي([30] ).
آلية الامتصاص والتذويب :
يتكثف استخدام آلية الامتصاص والتذويب في العلاقة مع الأسطورة بصورة عامة، ومع أسطورة الانبعاث والتجدد والخصب والموت بصورة خاصة، والشاعر في هذا المستوى يقوم بتذويب الأسطورة، ومحو حدودها وامتصاصها في قصائده مستفيدا مما تتميز به الأسطورة في رؤيتها إلى الطبيعة والأشياء من بنية استعارية، تحاول من خلالها أنسنتها مستخدمة في ذلك التشخيص والتجسيد لإضفاء الروح عليها، وفي هذه القصائد تختفي الأسطورة ليظهر صوت الراوي/ الشاعر، بدلا منها، حيث يظهر توظيف الدلالية الرمزية والبنية الشعرية للأسطورة، انطلاقا من رؤية معاصرة، يعبر من خلالها الشاعر عن العلاقة الروحية مع الطبيعة والأرض، باعتبارها تعكس العمق الروحي والوجداني لهذه العلاقة الأصيلة التي تمثل علامة ثقافية بارزة من علامات الموروث الثقافي الأسطـوري للمنطقة([31] ).
وتظهر آلية الامتصاص والتذويب للمورث الأسطوري البابلي والكنعاني والفينيقي الخاص بأساطير الموت والانبعاث والتجدد وقيامة الحياة، وبدلا من استدعاء الشخصيات الأسطورية المعروفة في تلك الأساطير التي استخدمت رمزيتها بكثافة في الشعر العربي المعاصر، يحاول الشاعر أن يكون التناص، من خلال هذه الآلية مع المعنى الرمزي لتلك الأساطير، وما توحي به من معان ودلالات، يعبر من خلالها عن موضوعات معاصرة، ترتبط بموضوع الأرض والعلاقة الحيّة والمتجددة التي يظهر توحد الإنسان الفلسطيني معها. ويستخدم الشاعر الصورة الاستعارية والتشبيه في هذا المستوى البلاغي للنص، حيث يظهر المعنى الرمزي الذي يوحِّد بين المرأة، بوصفها رمز الخصب والولادة والتجدد والأرض، والشجر الدال على القوة والخضرة الدائمة، مما يخلق مستوى من التراكب الدلالي في القصيدة التي تنفنح على التجربة التي يريد الشاعر التعبير عنها، ويجعل الرمز منتجا لفعله الرمزي الدال، من خلال استخدام صيغة الفعل المضارع الدالة على الاستمرارية في الحركة، والمُشكلِة لمشهدية مولدةٍ لمعانيها الحية والثرية:
آذار طفل الشهور المدلل
آذار يندف قطنا على شجر
اللوز
آذار يولم خبيزة لفناء الكنيسة
آذار أرض لليل السنونو ولإمرأة
تستعد لصرختها في البراري... وتمتد في
شجر السنديان ([32] ).
لقد شكلت قضية الأرض محور هذه الرؤية التي لم تتوقف عند حدود امتصاص المعاني الرمزية لنصوص الأساطير القديمة، وما تختزنه من رؤية شعرية غنية ومن بعد درامي، وإنما تجاوزت ذلك إلى إعادة توظيف تلك الرؤية الاستعارية للأسطورة، بما يمنح علاقة الشاعر مع الأرض على المستوى الوجودي والروحي والتاريخي دلالاتها النابعة من عمق تلك العلاقة ومن تجلياتها المتعددة بما يمنح تلك الهوية قيمتها وملامحها التي تكتسبها من هذا العمق الوجودي والثقافي المترسخ في تاريخها البعيد، وبما يجعل خطاب الشاعر بوصفه يمثل الضمير الحي لشعب يغتصب وجوده وتاريخه وأرضه تحت ذرائع ودعاوى تاريخية ودينية عنصرية تحاول تجديد سيرة الماضي الذي قام على أساسه الوجود اليهودي الغابر والذي تفضحه كتبهم عندما تروي وقائع من حدث من تدمير وبطش طال حتى الحيوان، لذلك فإن توظيف الأسطورة بعناصرها المختلفة تأتي محاولة لتأكيد هذا العمق الثقافي لوجود الإنسان الفلسطيني على هذه الأرض وما يحمله ذلك الوجود من غنى حضاري وإنساني تجسده وقائع تلك الأسطورة ودلالاتها المعبرة والموحية، وهذا ما تجلى في الأبيات الآتية :
إنهم أقانيم ثورتك يا إيكاروس
إنهم أقانيمك الثلاثة
إنهم أجنحة أبيك المهين الصابر
فاشملهم بروحك وانطلق
إلى الأعالي يا إيكاروس
ولا بأس عليك من التنفس والحيطة
في مياه الأرض نصب الأعداء كمينهم
وكمين الأعداء يتربص بك في وهج الشمس ([33] ).
إن امتصاص الشاعر للرمز الأسطوري وتوزيعه في جسد القصيدة بوعي ، جعله سداة القصيدة ولحمتها ، وهذا ينم عن وعي الشاعر بأهمية الكلمة الشعرية ، وقدرتها على تأسيس رؤيا تحريضية تعبر عن الحاضر ، وتستشرف المستقبل ، لتبقى جذوره المقاومة الفلسطينية مشتعلة ، بل ما تحمله من تضحية واستشهاد ، ليصبح البطل الفلسطيني " تجسيداً لنموذج الموت والانبعاث ، لأنه يفتدي بموته الأمة ، ويعطيها حياة – وأصبح في أرض فلسطين الأم مطمعاً لتحقيق ولادة جديدة " ([34] ).
هكذا يدعو الشاعر " ايكاروس" أو معادله الموضوعي ، أن يبقى متمسكاً بالحرية، سائراً إليها ، باعتباره، عريسها ، دون أن يرهب الموت ، لأن رماده سيوزع على حدود الوطن ، ليخرج منه " طائر العنقاء" ويقسم الثائر المتعطش للحرية بالأيتوب ، على حد تعبير الشاعر "عز الدين المناصرة "، في قصيدته " طريق إلى الشام" ، حيث يضيف إلى الرمز الأسطوري دلالة جديدة معاصرة ، أو يعيد تأسيس الرمز الأسطوري وفق رؤيا جديدة ، تعبر عن حالة النفي التي يقاسيها الإنسان الفلسطيني ، وتسير هذه الدلالة في القصيدة جنباً إلى جنب مع دلالة الثائر والشهيد ، مستخدماً في ذلك آلية " الدور " المعتمد على التلميح دون التصريح باسم الرمز الأسطوري ، حيث يقول :
ونحن عطاش لماء دمشق القديم
ستحمل في جناحيك عذاب المنافي
لتصرح قرب المذابح في الأديرة
فأجنحة الشمع كادت تذوب
انقسم أن تتوب
فقد قتلوك كما قتلوني ([35] ).
إن خصاب الدلالة في الأبيات السابقة ، يكشف عن حقيقة المأساة أو مأساة الحقيقة ، التي يعانيها الثائر الطامح للحرية ، المتعطش لماء " دمشق" القديم ، دمشق الرمز الممتلئ بالحياة والخصوبة والوجود الحضاري الفاعل ، التي أضاءت روح العالم ، لكنها اليوم هجرتها الجيوش ، والتي يعيش أهلها ويستمتعون بحياتهم ، أما الشاعر وقومه ، فهم يكابدون الأهوال ولا يعيشون الحياة ، يقول :
ذكرتك دمشق كما يذكر الطفل أثداء سيدة
في البلاد التي هجرتها الجيوش
تعيش يا أهلها – وأنا لا أعيش !!! ([36] ).
وبهذا يُعبر " المناصرة" عن المعاناة الإنسانية من خلال استخدام ضمير المتكلم على الصعيدين الذاتي والجماعي في الآن نفسه ، لكن البطل الثائر يخرج من رحم المأساة ، ويلقي عن نفسه عبارات الموت وينهض من قبره بخطى واثقة من وسط صحراء العرب المقفرة راكباً فرسه ، وشاهراً سيفه ، انه البطل الفرد في عالم لا يعرف معنى البطولة ، إذ يقول :
وقلت يعود لنا من قبور الشهادة
يخرج من جوف صحرائنا المقفرة
يغمغم يركض بالسهم يركب فوق حصان
من الحور صاغوه في قاسيون ([37] ).
ينداح النص الأسطوري ورموزه الأسطورية بين يدي الشاعر ، ليغطي مساحة الوطن في فلسطين ودمشق، وقاسيون ، وغيرها ، ولهذا يعد المناصرة شاعر الأمكنة بحق ؛ حيث يتبدى في قصائده "شعرية" الأمكنة ، وقدرتها على الحضور الفاعل في تشكيل بنية النص وإنتاج دلالاته ، وبهذا يمكن اعتبار هذه الحالة الشعرية المكانية مظهراً من مظاهر المقاومة الشعرية ؛ لأنها تدافع عن حق الهوية الفلسطينية في لملمة عناصرها ، التي تمت تجزئتها من أجل الوقوف ضد الاندثار والاندماج في المنافي ([38] ).
خاتمة :
من خلال الدراسة السابقة تبين أن الشاعر الحديث يوظف الأسطورة القديمة عربية وإغريقية وسومرية وبابلية من مثل : العنقاء والغول والسندباد ، وجلجامش وعشتار ، وسيزيف ، وغيرها ، فقد وظف الشاعر محمود درويش – على سبيل المثال – الأسطورة كثيرا في ديوانه " سرير الغريبة" الذي حشد فيه الشاعر كثيرا من الأساطير المتعلقة بالحب، ولم يكتف الشاعر الفلسطيني الحديث بذلك ، بل جعل من التاريخ وحوادثه وشخصياته مادة استلهمها الشاعر ، فقد تجد في الشعر الحر إشارة لحرب جاهلية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق