على كلٍّ،
مضى ما ليس يرجعُ
و انتهت أشياءُ أخرى
و ارتخت بقعُ الدخان على الزجاجِ
و لا يُعادُ من الكلامِ سوى الكلامِ؛
تمرُّ بي،
لا شيء يمنعُ أن تمرَّ
و أن يجيءَ البحرُ في نظراتِها شرِهاً
كذاكرةٍ تعودُ،
و أن تبيتَ الريحُ بين وسائدي،
و أخافُ أن أنسى لِمَ ابتلعَ الكلامُ طريقَنا
بين البيوتِ و لم نقِفْ
حتى افتقدنا خطوتين،
هناك ينفتحُ المكانُ
و لا تزالُ مسافةٌ لم نمْشِها:
شيءٌ تأخر و انتظرتُ لعل ذاكرة
الهواءِ تعيدُ رائحةَ المسافةِ.
لم تصلْ ميسا و أسمع أنها في
آخرِ الظلِّ المُمَدَّدِ
تحت نافذةِ الفصولِ
و حين يرتسمُ الخريفُ على السماءِ
يُعيدُها تشرينُ كاملةً
لها شَعرٌ و خاصرةٌ من الغيمِ
المضيءِ على شفاهِ البيلسانِ؛
عيونُها لا تنتهي فيها السهولُ
و ينتهي شفقُ المغيبِ
على حدودِ مسائِها.
في غرفتي ليلٌ
و شيءٌ باردٌ من صوتِها
يُبْقِي الشتاءَ على
ستائِرنالأولِ موعدٍ.
ظِلٌّ لبسمتِها و أوراقٌ تقادمتِ الكثير
و قُبْلَةٌ لم أدْرِ هل أُعْطيتُها
أم أعطَيتُها.
كانت من الوردِ المُعَبَّأِ في جرارِ الليلِ
تنسجُ موعداً للصيفْ؛
كانت مهيَّأةً لأن تمشي و تسألَ عن
طريقٍ تحته بحرٌ
و لونُ مدينةٍ لم يكْفِها أني
تركتُ على مفارِقِها
بقايا دمعةٍ متروكةٍ للشمسِ؛
يا قلبيَ العاجيَّ
كم منفىً
عرفتَ و كم سماءً سوف
ترقَى كي ترى ميساءُ
فيك الريحَ صافيةً،
و تعرفَ أنها كلماتكَ الأولى
و ضاحية التلالِ المستديرةِ
عند منحدرِ الزنابقِ.
كلُّ ذاكرتي أماكن
لست أدري كيف أحيا بينها.
أحتاجُها جنبي
و تهربُ حين ينعطفُ الطريقُ
و تبدأُ الدنيا.
على كتفي يدٌ ممدودةٌ
و يدٌ تُلَوِّحُ للندى المنثورِ
في مُقَلِ الصباحِ؛
مُمَزَّقٌ بيني و بين كلامِها،
فوضى برأسي،
لا مكانَ لمقعدٍ في الظِلِّ،
أبحثُ في عيونِكِ عن طيورٍ
تعبرُ النفقَ الأخيرَ
الى السفوحِ و قطرةِ
الماءِ الكبيرةِ.
هادئٌ ضَوْءُ المَمَرِّ،
علَيَّ أنْ أُنْهي رسائلَ للبنفسجِ
ثم أرحلُ قبل أنْ يعلو النهارُ حديقةً
مخبوءةً خلف الصدَى.
أيلولُ عادَ و لم يَعُدْ
ما ضاعَ مِنْ عمري،
هراءٌ أن يفاجأني إذاً
بمحطةٍ تحت الضبابِ
أمُرُّ منها مُوْهَناً.
ميساءُ رائحةُ الحياةِ
و مولدُ الفرحِ المُصَفَّى من دمي،
يا غربة لا بدَّ منها،
كيف لا،
و حكايةُ الملْحِ
القديمةُ لا تزالُ على جفوني؛
لو هنا يقفُ المكانُ
و ينتهي زحفُ الثلوجِ
على ملامِحِنا الصغيرةِ!
حين أُشعِلُ شمعةً
تأتينَ في طيفٍ من الزَّهْرِ
المُبَلَّلِ فوقَ أسوارِ الظهيرةِ،
في يديكِ ضفائرُ القمرِ الغَيُورِ
و من شفاهِكِ ينبضُ
الزمنُ العَفِيُّ.
لِمَنْ أنا
حتى أُلَملِمَ عودتي من
كلِّ نافذةٍ تطلُّ
على قشورِ اللوزِ؟
يا ميساءُ،
يا لغة أُوَرِّثُها لأولِ عاشقين
و موجةٍ تركت سواحلَها
لتلحقَ بي بعيداً
خلفَ أكواخِ الرعاةِ.
سنحتمي بالعشبِ من أسمائِنا
إنْ أنكَرَت فينا
مواقيتَ الشتاءِ و أغنياتِ البرتقالةِ.
تائهٌ في كلِّ شيءٍ
لا أُفكِّرُ في النهايةِ
كي أغيبَ مع النوارسِ
في جهاتٍ لا تعودُ من المدى.
كُنْ طيِّباً يا قلبُ
و اعطِ حبيبتي لغةَ الفَرَاشِ
و معطفاً لمواسمٍ تختارُ
فيها الشمسُ مخبَأها
و ترتحلُ الخرافاتُ الجديدةُ للكهوفِ.
أنا الوحيدُ على جدارِ الكونِ
تدفعني النجومُ الى فراغٍ مدهشٍ،
خلفي خيوطٌ من
غبارِ اللازِوَرْدِ
و لا زمان هنا
فأكبرَ مرَّتينِ.
تدقُّ ساعتُها و أسمعُها بقلبيَ
تخدشُ الحِنَّاءَ عن أطرافِهِ:
ما كان يقبلُ يوماً ما يُرادُ به
لولاكِ أنتِ و لولا أنه الجودُ
عليكِ ردٌّ إذا ما راح يسألُني
فيم ابتدائي به و الغَيْرُ موجودُ
من البدايةِ كنتُ مرتبكاً:
تُرى ماذا سأفعلُ
حين تهمسُ لي سيُولَدُ شاطئٌ
في قلبها المحفوفِ
بالنوَّارِ و الأفقِ المسافرِ؟
من موانئِه سأُبحرُ
ثم أرسو لستُ أدري أينَ،
يبدو الأمرُ مختلفاً.
مقاعدُنا القديمةُ شبهُ دافئةٍ
و هذا الليلُ يؤلمُني
يحاولُ نزعَ أجنحةَ النجومِ
ليطفئَ الكلماتِ.
أعرفُ كلَّ شيءٍ عن عيونِك
حين تفجأُني بلون قوافلِ
الأمسِ البعيدةِ.
كم مغامرة تبَقَّت
لي على عتباتِها لأقولَ
شيئاً في بطولةِ من يموتُ
معلَّقاً خلفَ الجنونِ و في
زوايا غيمةٍ للحُبِّ
تزحفُ في شراييني و تبتلعُ
الهدوءَ بلذةٍ لم تُبْقِ
فيَّ مسافةً تكفي لأكتبَ
عن حبيبتي الكثيرَ.
أحبُّها كغدٍ بلا أسماءَ
تؤذي النرجسَ الآتي بأسرارِ
البحيراتِ الطليقةِ في
عروقِ الزعفرانِ و ما أنا إلا
شراعٌ أفْلَتَتهُ الريحُ
بين رموشِها إن أغمَضَتْ
سأذوبُ لا أقوى على
حمل الشروقِ الى ضفافِ السَّرْوِ.
أيامٌ أُرَتِّبُها كأني لستُ مضطَّراً
الى قلقٍ يفتِّتُ فيَ أنسجتي
على مرآتها و أنام محترِقاً
بذاكرةٍ أُقَسِّمُها على
مهْلٍ و بعد الليلِ
أُدرِكُ كم أنا عبءٌ على نفسي
و أصحو موجَعاً.
ميساءُ أسئلةٌ على أبوابِ تشرينَ الغريبةِ
لمْ أُجبْ عنها و قد
تركَ الرمادُ حديثَهُ في الحلْقِ
أسبقُها الى أنفاسِها متعثِّراً
بشذىً تفوَّحَ من مفاتِنِها.
إذَنْ، لم تُعْطِني الدنيا سوى قلبي
أعرِّفُهُ متى كانت تعلِّقُ فيه
أوراقَ القَرَنفُلِ و احمرارَ
الوردِ في أيَّارَ.
كم كانت شفافيةُ الندى تصفو ببسمتِها
و رائحةُ الصباحِ تسيلُ من شفتيكِ.
وحدي مرةً أخرى،
أراها في شرودِ الريحِ
خلفَ مساكنِ الليلِ البسيطةِ،
في غيومٍ لا تزالُ بعيدةً في زُرْقةِ الأفُقِ
المُمَدَّدِ فوقَ أكتافِ الكرومِ.
تمرُّ من قلبي الى قلبي
كوهْجِ الصيفِ،
مثل تشققاتِ الثلجِ عن زهرِ السفوحِ؛
قريبةٌ مني كلمساتِ الشتاءِ
و دمعةٍ بدأَتْ بجُرْحٍ و انتَهت
أيضاً بجُرحٍ صامتٍ
كمدينةٍ مدفونةٍ في الرمْلِ.
يا ميساءُ يا دِفْءَ الأناشيدِ المُريحةِ
عند أدراجِ المعابدِ:
كيف أغدو إنْ نواقيسُ
النهايةِ أسمعَتْني ما أخافُ
و أفشَلتْ حلُمَ الرجوعِ؟
مع الخريفِ نعودُ أصدافاً نعلِّقُها
على عُنُقِ المساءِ و نترُكُ
النسماتِ تحفرُ في شبابيكِ السكونِ
مخابئاً للروحِ.
أيلولُ انتهى زحفاً على دمِ
من دَعَوْ للورد أن يبقى على شرفاتِنا.
راحوا على مرأىً من الدُّوري
و نظرةِ من أَحبُّوهم.
نموت لأننا لا نكتفي بالموت كي تزهو
سنابلُنا على جفنِ الضحى،
و نعود نُسقِي اللوزَ بالغيمِ
النؤومِ على طواحينِ البدايةِ.
من هنا نفقُ الخروجِ الى
القيامةِ و انكشافِ الموتِ.
ميساءُ ابتعدنا يوم كان الفلُّ
مشتعلاً على كلماتِنا الأولى،
و عدنا حين أضحى
آبُ أكبرَ من خرافتِهِ يرتِّبُ شمعتينِ
لأمسياتِ الكستناءِ و قُبْلَتينِ على شفاهٍ من زجاجٍ
لوَّنَتها الأمنياتُ بما تشاءُ،
و لا تزالُ على خيوطِ الأربعاءِ
نعلَّقُ النظَراتِ باردةً
كأعشاشٍِ على قِممِ الخريفِ،
و لا نزالُ على شواطئَ
أنبَتَتْها الشمسُ عاريةً
فنكسوها بأذرعِنا،
و أنظرُ هل أرى للأرضِ
خارطةً بلا أسماءَ كي أعطي
المدائنَ من حروفِكِ أبجديتَها.
أحبُّكِ عائداً من كلِّ شيئٍ
مُلقِياً وجعَ الطريقِ على سريرٍ لا يجاملُ
فيَّ دفْءَ يديَّ،
ألمسُ شعرَها و أضمُّها طيفاً
لتفلِتَ كالندى عن سطحِ بيتٍ
أتعبَتْهُ الريحُ.
يا أملاً سيصعبُ أن أمُرَّ على الزمانِ بدونِهِ.
يومٌ لسوسنةٍ و يومٌ غيرُ مكتمِلٍ
على طرَفِ الكلامِ و ما تبَقَّى
ربما لحبيبتي و هشاشةِ الفجرِ
المفَتَّتِ فوق رائحةِ الترابِ و مولدِ النوَّار.
صورتُها تُقَلِّبُ فيَّ صفحاتِ
الرخامِ و أسمعُ الهمساتِ تصفِرُ
في جوانِبِها،
و تتسعُ الشقوقُ ليختبي
قمرُ المدينةِ بين قلبَيْنا.
هي الدنيا، متى كانت كما نهوى؟
نُجَمِّلُها بما نخشاهُ كي نبقى
بذاكرةِ الطيورِ على
صخورٍ أوقفَتْها الريحُ مراتٍ
و أسألُ ربما للتِّينِ ما يحكيهِ
إنْ مرَّ الشمالُ بثغرِها
علَّ ابتسامتها تعيدُ لهُ رُؤى نيسانَ.
يا نيسانُ أخْفَتْكَ السماءُ
و لمْ تَبِنْ حتى دنت ميساءُ
من أسوارِك البيضاءِ يسبقُها
وشاحٌ ذاب في أهدابِهِ أرَقٌ أُغالِبُهُ
فيهرب بي اليها خلف غابات الصباحِ،
هناك لا أدري متى نحتاجُ
أنْ نُخفي عناقَ النرجسِ المفتونِ
للروحِ المضيئةِ بين شفتيها.
انتظرتُ، و لم أكنْ يوماً على عجَلٍ،
نزولَ الظلِّ عن كتفِ المساءِ
لأحتمي بعيونِها منِّي:
أنا الآتي بنفسي بعدما صار الغروبُ
إعادةً للخوفِ.
تشغلني نوايا لم أجدْها سابقاً
في وجهيَ المألوفِ للماشينَ
في وسطِ الطريقِ و ينبغي
سحْبُ الستارةِ لو قليلاً كي نرى
طرفَ المحيطِ و ساحلَ
السفنِ البعيدةِ و هْي تفترشُ
السكونَ و قد تناست
أنها ستعودُ تبحثُ في المدي
المفتوحِ عن شيءٍ تمارسُ
فيه أفكارَ الموانئِ حين يدعوها
الضبابُ لموكبِ العبثِ الشهيِّ كشمسِ
آذارَ القريبةِ من كهوفٍ أبطأتْ
في صحوِها من عتمةِ
كَبُرَت كشوقيَ
لاختطافِ حبيبتي عبر الحدودِ
القرمزيةِ، خلف أوديةٍ بلا مأوى
تلائمنا كثيراً و هي مقفلةٌ
بأصواتٍ تردِّدُنا كأحلامِ النوافِذِ.
قد تُرِكْنا وحدنا يا وردُ
نحملُ أغنياتِ الأرضِ،
نزرعُ في مآقينا بقايا التوتِ.
هادئةٌ قبورُ
الطيبينَ على مداخِلِنا الصغيرةِ؛
لم تكُنْ صُدَفَاً خطاهُم عند
أولِ حارةٍ حتى و إنْ بدتِ
الأمورُ بسيطةً أو شبه مقنعةٍ.
أنادي أيهذا الوردُ حاذرْ أن تغادرَ
شُرْفَتَيْنا قبل منتصفِ المساءِ
و كُنْ شجاعاً إنْ شعرتَ برغبةٍ
في أن تُقَبِّلَ وجنةَ البحرِ الرقيقةِ.
لمْ تُجرِّبْ بعدُ أيةَ خطوةٍ
نحو الجنوبِ لتبدأَ الأشياءُ فيكَ
على طبيعتِها و أن تقفَ الطريقُ
و لم تجدْني حاملاً
نصفَ الهواءِ و مشعلاً للبرقِ.
يا ميساءُ يا وجهَ الشتاءِ المستحيلِ
على مفارقِ هذه الروحِ،
اختفى لوني على صفحاتِ قلبِكِ،
كيف لا أخشى إذا ما رحتِ
أن أشقى و أصبحَ صورةً للوهمِ
تمحوها الموسمُ مرةً و الخوفُ مراتٍ.
حزينٌ قلبُها
كالنهرِ أول ما يكونُ الليلُ
ترتجفُ النجومُ عليه باهتةً كصوتِكِ
حين تتكئُ الغيومُ على المكانِ
و ينتهي سهرُ الشفاهِ
بلا خلافٍ حول من يأتي
الى باب القيامةِ أولاً.
ميساءُ زاهيةٌ كأيامِ البنفسجِ
نصفها دفءٌ و نصفٌ كالنهارِ
مبَارَكٌ فيه الندى و الثلجُ.
هذا ما لدي لتُرْفَعَ الصلواتُ
عند ظهيرةِ الصفصافِ مُنْهِيَةً دموعاً
لا تُرى في الشمسْ.
الجمعة 20/10/2000