لا تلتفتْ
كلُّ المداخلِ غادرت أسوارَها وبذا انتهى
همسُ الأزقَّةِ بيد أن الظلَّ يسأمُ وحدهُ،
أطرافهُ التصقت بأثوابِ العجائزِ خلسةً
فالبردُ يُفزِعُهُ بقصةِ حارةٍ و عوانسٍ
يكسرنَ أصواتَ الطُّبولِ بسَدّ نافذةِ الشتاءْ .
وبلهفةٍ
يُخرِجْنَ من أجحارِ جدرانِ الصباحِ رسائلاً
يقرأنَ بين سطورِها : الشَّطُّ يصحو مُتعَباً .
فيقِفنَ عند حدودهِ يرقُبنَ شُبَّاناً بهم
عِشْقُ المداخلِ يلهثون وراءَها و عيونُهم
سَفَرُ الشروقِ و رحلةٌ للغيم ترجعُ في المساء.
و لساعةٍ
والبومُ يَنعَبُ فوقَ أكواخٍ تداعى نصفُها
و الماءُ يحتضنُ الشوارعَ والبيوتُ و سائدٌ
لِلَّيلِ أبحثُ في مخابي الريحِ فوقَ سُطوحِنا
عن آخرِ الأيا مِ و العهدِ الممزقِ بيننا
فالخوفُ ينتظرُ الرمالَ و في يديه بنفسجٌ .
و لكي تَرى
ما خلفَ أبراجِ المداخلِ لا تُحَدّثْ نُسوَةً
يعرفن كيف الفقرُ يخُلِفُ وعدَهُ و يعودُ كي
يمتصَّ أوردةَ السنابلِ والندى ، والموتُ لا
تكفيه أرواحُ الروابيَ أن تُمَزَّقَ طالما
الطفلُ آخرُ من يفارقُ نظرةً نحو الشمال .
حيرانةٌ
قِبَبُ المساجدِ تحت أحجبةِ السماءِ وبينها
ساداتُ عبقرَ ينسجون ثيابَهُم من شَعْرِنا
كي نرتمي بحجورِهِم وتذوبُ شوكةُ وردةٍ
وتعودُ أروقةُ السراب نَؤُمُّها إذ لا يُرَى
ما بعد ذاك سوى الرياح تسوقُ أجنحةَ الرمادْ.
ومشانقٌ
تشتاقُ للغسقِ الممدَّدِ فوق أعمدةٍ لها
من زَعمِ أقنعةِ الظلامِ حبائلٌ لرقابِ مَنْ
الشوكُ ينبت جَنْبَهم . والصمتُ أولُه الخريفْ .
و تبولُ ذكرانُ الثعالبِ بين أظهُرِنا و في
مَيْسِ الغصونِ تَأَوُّهٌ . والكِبْرُ يعتنقُ الجذورْ .
وبقيةٌ
لا تُنْتَسى في التوتةِ العجفاءِ تحبسُ دمعةً
لا تُنْتَسى في التوتةِ العجفاءِ تحبسُ دمعةً
بشقوقِ وجْنَتِها التي لا تشتكي حتى و لو
ما عاد يأتيها الذين تظنُّهم لا تنمحي
عن جذعِها أسماؤُهم . والكرمةُ الأخرى بها
ما كان يحسبهُ الشيوخُ نصيبَنا بعد الرحيلْ.
أنشودةٌ
في الغربِ تُوقظُ برتقالَ العيد تسألهُ متى
الموتُ يذبلُ فوق أبوابِ الصفيحِ ويستقي
دِفءَ السكونِ مِنَ النَّدى وشُباطُ لا يَقوى على
رَدّ المداخلِ نحو أوديةِ السهولِ و حيثما
تهوِي الصقورُ ستختفي جثثٌ لأوراقِ الصباحْ .
وفجأةً
و النوم أقربُ من خيوطِ الحلمِ أسمعُ هاتفاً
نَبَذَتْهُ أولُ عبْرَةٍ إذ كان يُعرِضُ وجْهَهُ
عنها ويُنْكِرُ أمرَها ، فالأمسُ يطوي خِلسةً
صُحُفَ الذين نُحِبُّهم ويعود يطلبُ غيرَها.
و الأمرُ أكبرُ من سباقِ الشمسِ أو موتِ المغيبْ.
فتزاحمت
صُوَرُ الأماكن حيثُ تصطنعُ الوجودَ بخاطري
وأصدُّها رفقاً بأبوابٍ لها حَفِظت لنا
دفءَ الوداعِ ولَهْوَ عشاقِ الصبايا في الخفاءْ .
فاليوم يختطفُ الضبابُ الحِسَّ بالجُرْحِ الذي
بمنابتِ العشبِ المبلَّلِ فوق ذاكرةِ الزمنْ .
ما عاد لي
مما مضى إلا أحاديثاً تساقطَ بعضُها
فوق الشفاهِ تُعيدُ سخريةَ الثلوجِ وصوتَ مَن
سكنوا بأبواقِ الرحيلِ وخلَّفوا صوراً لهم
تأتي إذا ما اشتدَّ شوقي واحتميتُ بوِحدتي
وتعودُ أحلامي تواسي ما يسيلُ من الدموعْ.
دعني ولا
تقربْ مشارفَ بيتيَ المعزولِ فوق جزيرةٍ.
أقتاتُ من سأمِ الموانيءِ إذ تُعَلّلُ نفسَها
بمراكبٍ ضلَّت ويسحبُها العُبابُ فكيفَ لا
أعتادُ تقبيلَ الظنونِ كما سأفعلُ بعدما
تقفُ الحواجزُ عادةً تبتاعُ أمتعةَ الرَّواحْ .
لو في يدي
ما ضعتُ في سُحُبِ الطيوفِ و عند أنديةٍ بدت
تختارُ ألوانَ الشحوبِ و تستظِلُّ بحائطٍ
لا يرتدي إلا وجوهاً كلُّها كانت معي
و عَلِمْتُ أن لا عودةٌ تُرْجَى فهذي سيرةٌ
لغدي و آملُ أن تُعاوِدُ مرةً مِن كُل عامْ .
لو أنَّها
مثلي تُلَفُّ بِبُرْدِ كاهنةٍ تجمَّدَ عظمُها
بثلوجِ صومعةٍ تفيقُ على حديثِ خرافةٍ
و العمرُ يعدو ساحباً دَخَنَ الحياةِ وراءَهُ،
ما كان يجدرُ أن تَشُكَّ بِمَنْ به ريحانةٌ
تُسْقَى بما تتلو العنادلُ في أَيارَ وغيرِهِ .
فإلى متى
قَلَقُ السواحلِ منهكٌ يمتدُّ فوقَ صخورِهِ
صَوْبَ الجنوبِ ولا يزالُ المدُّ يلتهمُ الخُطَى.
والقَطْرَسُ السّكّيرُ يَحملهُ على أكتافِهِ
و يمرُّ من وادي الأقاحي مُوغلاً حتى إذا
لاحت سعادُ توقَّفا . والكلُّ يبدأ من هناكْ .
فعيونُها
عمقُ الكهوفِ و عتمةُ الجُرْفِ السحيقِ وغربةٌ
في زرقةِ المجهولِ تبعدُ كلما يجَري بها
قلعٌ عتيقٌ يختفي عن لفتةِ النَّوءِ الذي
يعيا بوحدتِهِ ، فيَعْتَمِرُ الرياحَ تسوقُهُ
فتطيرُ بي . و جفونُها المأوى و زنبقةُ العِشاءْ .
يا عالماً
ماذا أقولُ وأنت ربي دائماً ، هي حاجةٌ
في النفْسِ تُرْجَى من سواكَ يجيبُها إذ تُوّجَتْ
من سِحْرِ أيلولَ البعيدِ بنجمةٍ قطبيةٍ
عادت بقافلةِ الشمالِ وعمرُها سنةٌ وكم
أبصرتُها خَجْلَي تجاورُ غرفتي دوماً وما
زالت سعادُ الحبَّ والشفقَ المعرَّقَ بالضبابْ .
1992
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق